رسالة مفتوحة إلى فخامة السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، رئيس الجمهورية
الموضوع: اغتيال الأستاذ والمحامي الدكتور الشيخ ولد حرمة الله
السيد الرئيس،
إن أسرة الفقيد كانت بصدد مراسلة الرئيس المنتهية ولايته. لكنها قررت إرجاء ذلك نظرا لانطلاق الحملة الرئاسية التي شغلت، على مدى أشهر، كامل الطبقة السياسية في البلد. وبما أن هذا الاستحقاق الانتخابي قد انتهى فإنها تتوجه اليوم إليكم بهذه الرسالة.
السيد الرئيس،
ها قد مرت سنتان والغموض يلف الظروف التي توفي فيها الدكتور الشيخ ولد حرمة الله، والتي أقل ما توصف به أنها يكتنفها قدر كبير من الالتباس. وفي هذا الصدد تتعارض أطروحتان متناقضتان جوهريا: فالشرطة والنيابة العامة تريان أن المعني قد انتحر، وبالمقابل يرى شهود مسرح الجريمة والأطباء والمنطق السليم أن الأمر يتعلق باغتيال جليّ.
والغريب أن القائلين بالأطروحة الأولى يتجاهلون وقائع مادية تدل بما لا يدع مجالا للشك على النفي القاطع لنظرية الانتحار. والسبب في ذلك أن التحقيق قام بالكامل على حجج الاتهام مُغْفِلا تماما أدلة الدفاع.
إن التحقيق – إذا سلمنا جدلا بأن هنالك تحقيقا – قد جرى على خلفية الكثير من التقريب غير الدقيق، ومن قلب الحقائق، ومن التناقض والجزم بغير دليل. فالتحقيق بدأ وانتهى بالتركيز على فكرة مُهَيْمِنة ألا وهي الزعم بانتحار المعني مع إقصاء كل ما يناقض هذه الفرضية التي هي بالنسبة لأصحاب هذا الطرح "حقيقة مطلقة".
تحقيق استحْوذت عليه من البداية حتى النهاية فكرة مسيْطرة: انتحار المعني
لم يُلْقِ التحقيق أي بال لما رآه الشهود وسمعوه. ومع ذلك فالمعاينة في أبسط معانيها تشير إلى:
- وضعية الجثة؛
- وجود آثار الطلق الناري في يسار عظم القذال (مؤخرة الرأس)؛
- وجود أثر الطعن بآلة حادة في الأذن اليمنى؛
- عدم وجود بِرَك من الدم تحت الجثة أو على ثياب المتوفى؛
- فحص قطرات الدم التي وُجدت قرب الجثمان – وهي قطرات متناثرة على الأرضية - يظهر أن الفقيد قد تم نقله ووضعه في هذا المكان؛
- المسدّس المخبّأ في ثنايا السروال؛
- بصمات الأصابع التي مُسِحت بعناية من السلاح الصغير؛
- شحنة من الرمل تم إفراغها على المكان الذي عُثر فيه على الجثة ساعات قليلة بعد الاغتيال؛
- المشتبه فيهم كانت أوصافهم محددة ومع ذلك لم يجر أي بحث عنهم؛
- سيارة أفنسيس رمادية اللون والتي لا تحمل لوحة أرقام شوهدت في عين المكان؛
- العيّنات التي أخذت من أجل تحليلها في الخارج وتعفّنت في مخازن المستشفى دون أن ترسل إلى المختبرات الأجنبية؛
- الحكم القضائي الذي كان المتوفى يسعى إلى تنفيذه في فرنسا والذي طلب من أجله تأشيرة لدى السلطات القنصلية الفرنسية في نواكشوط أسبوعين فقط قبل وفاته؛
- إلى حد الساعة لم تتلق الأسرة أي ردّ على الطلبات الملحة التي وجّهتها إلى النيابة العامة من أجل استخراج هذا الحكم بالتنفيذ الذي يوجد على الأرجح في وزارة العدل؛
- الشهادة الحاسمة التي أدلى بها شاهد (محام وسفير سابق) سمع ما قاله الفقيد لوكيل التأشيرات في سفارة فرنسا بشأن هذا الحكم بالتنفيذ. هذا الشاهد لم تشأ الشرطة الاستماع إليه رغم إلحاح الأسرة على الشرطة وعلى النيابة العامة؛
- تفسير الشرطة المثير للاستغراب حيث ادّعت أنها لم تعثر على هذا الشاهد في حين أن الأسرة زوّدتها برقم هاتفه وبعنوانه؛
- زعْم "اختلال" الصحة الذهنية للمعني، وهو أمر لم تلاحظه قط لا الأسرة ولا الأوساط المهنية التي كان يعمل فيها الفقيد .... كلها أمور لم يُراعَها التحقيق ونبَذها وراءه ظِهْريا.
اعتمد التحقيق "أدلة" تتناقض مع مجريات الوقائع
لكي يصل المحققون إلى الاستنتاج الغريب الذي توصلوا إليه (أي الانتحار) ارتأوا على ما يبدو أن يستدلوا على ذلك بثلاثة عناصر هي: استخدام المسدس الخاص بالمتوفى، وتشريح الجثة، والصحة الذهنية للمعني.
فكانت هذه العناصر الثلاثة كافية بالنسبة لهم لكي يثبتوا – على نحو خاطئ ومتسرّع – أن الحادثة تتعلق بانتحار مكتمل الأركان !
صحيح أن كلا من تلك العناصر إذا ما فُصل عن سياق الحادثة المعقّدة يمكن أن يوحي لغير المتخصص أن الأمر يتعلق بانتحار للوهلة الأولى. وبالتالي يصل إلى الاستنتاج ذاته.
بَيْدَ أن أيا من عناصر الإثبات التي استدلت بها السلطات المعنية (الشرطة والنيابة) لا تنهض دليلا على الانتحار، بل يعتبر الاستنتاج القائم عليها إنكارا لمجريات الوقائع.
ولتبيان ذلك تعالوا بنا لنستعرض تباعا بإيجاز كل عنصر من هذا الاستدلال على حدة:
-
استخدام المسدس
هذا السلاح البسيط عثر عليه في سروال الفقيد عندما قام الطبيب المداوم في المستشفى الوطني بفحص الجثمان. كانت البصمات قد تم مسحها بعناية من المسدس ولم تظهر عليه سوى بصمات نائب تيشيت الذي حمل الفقيد إلى الحالات المستعجلة. ذلك أن النائب عندما شاهد السلاح الصغير يسقط على طاولة الفحص انتبه إلى أن عليه أن يمسكه من جهة الماسورة. ومن الواضح أن الفقيد لم يكن بوسعه أن يُطلق رصاصة على دماغه – بغض النظر عن أذنه المطعونة بخنجر – ثم يمسح بصماته عن المسدس ويخبّئه بعناية في سرواله. ومن يقل خلاف ذلك يسبح في الخيال.
-
تشريح الجثة
تفوّه أحد الأطباء القائمين على تشريح الجثة بهذه الكلمات على شكل نكتة: "إن رجلا حليقا بمثل هذه العناية لا يمكن أن ينتحر. لذا يلزم البحث عن سبب وفاته". وقد توصل الأطباء الذين قاموا بتلك العملية الجنائزية إلى أن الأمر يتعلق بعمل إجرامي. ومن بين الفريق الذي تولى التشريح ابن عم للفقيد كان يمثل الأسرة. وعندما رأى أخصائي في علم النفس العصبي في المستشفى صورة الماسح الضوئي استنتج دون أدنى تردد أن "الأمر يتعلق بعملية قتل واضحة". وكان طبيب آخر حاضرا فألقى نظرة على استنتاجات تقرير الطب الشرعي، فقرأ حرفيا عبارة "فعل فاعل". وهذه العبارة صريحة في اعتبار المسألة من باب "الفعل الإجرامي". وصرح هذا الطبيب بأنه مستعد للإدلاء بشهادته مهما كانت النتائج المترتبة عليها. وقد أعطت الأسرة اسم ورقم هاتف هذا الطبيب الممارس للشرطة، لكنه لم يتم استدعاؤه حتى الآن – بعد سنتين – للاستماع إليه.
فهل جرى بعد ذلك تعديل التقرير الشرعي وتحويره لكي يكون أقل جزما؟ الله أعلم ثم المحققون.
-
الصحة الذهنية للمتوفى
لم تكن الصحة الذهنية للمتوفى قط موضع ارتياب لا لأسرته، ولا لأصدقائه، ولا لمحيطه المهني. فلا أحد يشتبه في أن به أدنى خلل عقلي.
لكن بما أن المسألة قد أثيرت وأصبحت لدى البعض دافعا إلى الانتحار، فلا بأس من التطرّق إليها.
خضع المتوفى في تونس لعملية جراحية هامة تتعلق بفتق. وبعد عودته من تونس لاحظ أن آثار هذه العملية لم تندمل بل تفاقمت بسبب بداية الإصابة بمرض السكري. وكان ذلك يؤلمه. ولم يكن ينام سوى ثلاث أو أربع ساعات في الليل. ولكي يستغرق في النوم كان يتناول بعض "المسكّنات" على النحو الذي اعتاد عليه منذ خمس وثلاثين سنة عندما كان طالبا في فرنسا. وهنا نشير إلى أنه لا يعالج ضغوطا نفسية وإنما آلاما عضوية. وحيث إنه لاحظ أن الجرعة التي يأخذها عادة لم يعد لها تأثير كبير، فقد كان يقابل أحيانا الدكتور جاه لضبط الجرعة أو لاستبدال الدواء.
ويبدو أن هذه الزيارات النادرة لطبيب نفساني قد حولت اغتياله إلى عملية انتحار: حيث التقى وجود سلاحه مع علاجه من قبل الدكتور جاه. فما ذا نبغي أكثر من ذلك؟ أليس هذا دليلا على الجنون؟ ذلك أن زيارة الدكتور جاه مرتبطة عند الموريتانيين في الغالب إن لم يكن دائما بحالة الجنون.
غير أن ما يغيب عن بال الكثيرين هو أن الفقيد ينتمي إلى المدرسة القديمة التي يحرص أهلها على ألا يتعالجوا إلا عند من لديهم الخبرة والتجربة المشهود بها، ولا يثقون بشُداة الأطباء وحديثي التخرّج.
وفي مواجهة ضغوط الحياة العصرية، يلجأ الكثير من الموريتانيين إلى تناول المسكنات يوميا (مضادات القلق والاكتئاب). وبحسب الإحصائيات يتعاطى 45% من الفرنسيين هذا النوع من الأدوية. وفي هذا دليل على أن تناول المهدّئات أو المسكنات لا يعني بالضرورة الإصابة بمرض نفسي.
لقد كان الفقيد على وعي كامل وكانت قواه الإدراكية سليمة تماما. ولم يكن يعاني من أي اختلال نفسي إطلاقا.
ولا أدل على ذلك من ممارساته اليومية. ويكفي للتأكد من ذلك سؤال أفراد عائلته، وطلبته، وزملائه في العمل، وكل من يتعاملون معه. وفي اليوم السابق لاغتياله كان قد ألقى دروسه بشكل اعتيادي، بل زادها بساعة إضافية لاستدراك درس فائت.
بل أكثر من ذلك قَبِل مسؤولية طالما رفضها ألا وهي الإشراف على رسائل السلك الثالث (الماجستير). وفي اليوم الذي اغتيل فيه كان لديه برنامج مشحون: موعد مع أصدقاء، لقاء بأصحاب مكتبات ... ومن السهل التأكد من كل ذلك وإجراء المقارنات اللازمة. وهذا ما يعنى أن الانتحار لم يكن البتة على جدول أعماله.
أما الوقائع والمؤشرات فلم "تنتحر" بل هي ناطقة ...
بصرف النظر عن الأدلة التي سقناها آنفا والتي تدحض تماما نظرية الانتحار، وإذا كانت الشرطة والنيابة تصرّان لدواع نجهلها على التشبّث بها الطرح، فإننا نقول: ليكن !
لنفرض جدلا – وهو مجرد افتراض تقتضيه منهجية الاستدلال – أن المعني قد انتحر. لكن الوقائع وغيرها من المؤشرات المادية لم تنتحر. فهي موجودة وناطقة. وتتمثل في وضعية الجثة، وغياب برك الدم في مسرح الجريمة، والمسدس المخبأ في السروال، والبصمات الممسوحة بعناية، إلخ ...
هذه المؤشرات عبارة على أشياء جامدة وبطبيعيتها "حيادية" لا تؤثر في مجريات الوقائع. وسواء تعلق الأمر بانتحار أو باغتيال فهي هنا موجودة لتشرح حقيقة ما جرى ولا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال. فالمؤشرات تظل عناصر ضرورية لتشكيل المشهد بالنسبة لكل حالة وفاة لا سيما إن كانت عنيفة. إنها النبراس الذي ينير لمحققي الشرطة العلمية والفنية مغاليق الفاجعة.
فلو أن مائة عالم نفساني أجمعوا بإصدار رأي مكتوب على أن شخصا ما مصاب بشكل حاد من الجنون وبأنه على وشك أن يضع حدا لحياته، فلا مناص من الاعتماد على الأدلة المستقاة من مسرح الجريمة لتأكيد أو نفي ذلك الرأي.
وبالنسبة للحالة التي تعنينا، لنأخذ مثالا واحدا من بين العديد من الأمثلة: كيف نتصور لحظة أن المتوفى قد أطلق النار على رأسه، وطعن أذنه بآلة حادة، ثم عاد إلى الحياة ليمسح البصمات عن سلاحه ويخبئه بعناية في سرواله؟
فلو حدث ذلك لكان المسدس سقط تلقائيا من يده ولكانت الضحية قد سقطت على الأرض بشكل فوضوي، ولم تكن على النحو الذي وجدت فيه: مستلقية على ظهرها مرتبة أكمام الدراعة ومشبّكة الساعدين على الصدر.
لا يوجد مرض بغير أعراض
يجب ألا نخادع أنفسنا. إن التقييم الوحيد للصحة النفسية للمتوفى، بغض النظر عن الأدوية، يتمثل في سلوكه وخاصة في اليوم السابق لوفاته. هذا هو المعيار الوحيد الموثوق به والقابل للتحقق منه ومن شأنه أن يقطع دابر التكهنات وغيرها من المناكفات.
فبمقدور طبيب أن يدلي برأي ويخالفه غيره. وقد يكون للأسرة رأي مغاير. فكل ذلك مواقف ذاتية ما لم تعزز بالدليل الملموس النابع من الوقائع الحقيقية.
وهكذا تتجلى رغبة الشخص في الانتحار من خلال سلوكه اليومي. فلا دخان بغير نار ولا يوجد مرض بغير أعراض. والحال أن أسرة الفقيد، وطلابه، والمحيطين به مهنيا، لم يلاحظوا أي اختلال في سلوكه الذي كان سويا تماما.
في يوم الخميس السابق لوفاته التي حدثت فجر الجمعة، كان المعني يلقي دروسه في كلية الحقوق.
وفي هذا الصدد نورد شهادة على شكل إفادة رسمية موقعة ومختومة من لدن عميد هذه الكلية. وأصل الإفادة تم تسليمه مقابل وصل لمفوضية الشرطة 2 في تفرغ زينة. ونقرأ في هذه الإفادة ما يلي: "أنا الموقع أسفله، السيد مختار افال محمدو، أفيد بأن المرحوم الأستاذ الشيخ حرمة الله قد ألقى دروسه عشية وفاته بشكل اعتيادي في الوقت المحدد لذلك. وفضلا عن الدروس المقررة زاد درسا إضافيا. ولم تلاحظ الإدارة عليه أي سلوك غير عادي. وقد أصدرنا هذه الإفادة بطلب من الأسرة".
وكتبت السيدة سيجن فوهن مديرة GEU / L'ACADEMIE (وهي جامعة خصوصية كان الفقيد يقدم فيها دروسا في القانون بوصفه أستاذا متعاونا) إفادة تم تسليمها كذلك لمفوضية الشرطة 2 في تفرغ زينة. وورد في هذه الإفادة ما يلي: "أفيد بأن السيد حرمة الله قد قدم عشية وفاته درسه في المؤسسة التي أديرها، وكان ذلك بصورة اعتيادية تماما، ولم يلاحظ عليه أي كلام أو سلوك خارج عن المألوف".
توقيع وختم المؤسسة.
كما سلمت الأسرة لمفوضية الشرطة 2 في تفرغ زينة وثيقة أخرى تتضمن إفادة هذا نصها:
"أنا الموقع أسفله، محمد عبد الله داداه، صديق المرحوم الشيخ ولد حرمة الله وزميله في الدراسة، أفيد بأني وافقت بطلب من الفقيد عشية وفاته على أن نزور معا صديقا قديما مشتركا هو السيد موسى ولد الشيخ سيديا. وكان موعد هذه الزيارة مقررا في مساء السبت أي في اليوم الموالي لوفاته التي حدثت فجر الجمعة".
تجدر الإشارة إلى أن السيد ولد داداه قد جاء إلى مفوضية تفرغ زينة 1 لتصديق توقيعه. والغريب أن مفوض الشرطة أجابه بأن هذا ليس من اختصاص الشرطة وأن عليه أن يتوجه إلى موثق. وهو ما فعله في النهاية.
وكان هذا هو ما أجاب مفوض لكصر 1 أحد إخوة الفقيد قدم عليه مع الأستاذ الشيخ ولد باها الذي كان يريد، هو أيضا، أن يصدق توقيعه بشأن شهادته على ما قال الفقيد أمامه لمصلحة التأشيرات في سفارة فرنسا بنواكشوط.
فكأنّ هناك تواطؤا على تجنّب كل ما له صلة بهذه القضية. ومع ذلك لا مراء في أن السلطة التي تصدق على وثيقة ما ليست معنية بمحتواها. فدورها ينحصر في التثبّت من أن الشخص الذي حضر أمامها هو من أصدر الوثيقة بالفعل.
شهود لم ينخدعوا بأطروحة "الانتحار"
هناك عدة شهود لمسرح الجريمة لم ينخدعوا بمزاعم انتحار المعني، نذكر منهم:
- بويا أحمد، نائب تيشيت الذي كان من أوائل من اكتشفوا الجثة وحملوها إلى المستشفى، فقد صرّح علنا أمام العديد من الشهود بالقول: "إن هذا الرجل قد تم اغتياله! ومن غير المقبول أن يُلصق بذكراه عار الانتحار. وأنا شخصيا سأصْدح بذلك بصوت عال مهما كانت العواقب!".
- دحان ولد محمد محمود، وزير سابق للشؤون الخارجية، وهو رجل رزين لا يُلقي الكلام على عواهنه، وكان أيضا من أوائل من اكتشفوا الجثة، وقد قال أمام شهود إنه هو شخصيا متأكد من ثلاثة أشياء:
- "أن المعني لم ينتحر؛
- وأنه لم يُقتل قبالة المسجد؛
- وأن مسدسه ليس السبب في وفاته".
التحقيق ينتعش بعد سُبات دام سنتيْن
بعد "بيات شتوي" استمر على مدى سنتيْن، تم تفعيل التحقيق مؤخرا على ضوء معطيات جديدة قدمتها أسرة الفقيد. وفي هذا الإطار نشير إلى الشهادة المثيرة التي أدلى بها مفتش في إحدى شركات الدولة كان قد استوقفتْه ثلاث سيدات ليحملهن في سيارته، وعندما ركبن معه لاحظ أنهن على ما يبدو أجنبيات لأنهن يتكلمن الحسانية بنبرة غريبة. وقد جلست إحداهن بجانب السائق وكانت فاتحة البشرة (لونها يميل إلى البياض) وتظهر على وجهها وذراعيْها نقاط سوداء ربما تعود إلى آثار إصابتها بمرض جلدي. وقد سمع إحداهن تتحدث عن مهرّب للمخدرات قد تكون له صلة "باغتيال محامي أولاد أبييري".
وقد طلب والد هذا المهرّب من أحد الوزراء التدخل لإطلاق سراح ابنه ...
ويقول الموظف المعني إنه على يقين من التعرّف على النساء الثلاث اللائي تحمل إحداهن علامات بارزة. كما يؤكد أنه يعلم تماما المكان الذي نقلهن منه والمكان الذي أوصلهن إليه. ويقول هذا الموظف إنه على استعداد تام للإدلاء بشهادته.
ولعل من الجدير التذكير بأن الاشتباه في عصابات المافيا ليس، على الرغم من الظواهر، هو الطريق الأوحد لسبل الاستقصاء، حتى ولو كان ذلك الاشتباه هو الأقرب إلى الاحتمال. فهناك طرق أخرى ينبغي سبْرها بالتحرّيات لاستجلاء غوامض هذا الاغتيال البشع. المهم أن تحظى هذا القضية بالاهتمام وأن يُبذل في سبيلها الوقت الكافي والوسائل اللازمة، دون آراء مسبقة.
الماسح الضوئي يظهر بجلاء أن المتوفى ضحية اغتيال
صفوة القول أنه انطلاقا من التحليلات الآنفة الذكر، ومن المؤشرات العديدة التي يُفترض أن الشرطة العلمية والفنية قد استنتجتها من مسرح الجريمة، ومن الشهادات الجلية والمتواترة للأشخاص الذين كانوا موجودين في عين المكان، ومن التحقيق عن كثب، يُستخلص بما لا يدع مجالا للشك استبعاد أطروحة الانتحار.
بل أكثر من ذلك تبدو من تصوير الماسح الضوئي لجمجمة المتوفى حقائق ناطقة.
فبحسب الماسح الضوئي كان الفقيد ضحية لاعتداءيْن متمايزيْن. أحدهما على مستوى مؤخرة الرأس (عظم القذال الأيسر) بفعل رصاصة، والآخر على مستوى الأذن اليُمنى بسبب آلة حادة.
ويستبْعد الأطباء تماما أية علاقة ما بين مسار الرصاصة والجرح الغائر في الأذن اليُمنى. فهم يرون أن الأثريْن منفصلان ولا يوجد اتصال بينهما البتة.
وتقتضي هذه المعاينة أحد أمريْن لا ثالث لهما:
- إما أن يكون المتوفى قد أطلق على رأسه رصاصة ثم طعن أذنه، وإما أن يكون طعن أذنه أولا ثم أطلق على رأسه رصاصة. وفي كلتا الحالتيْن يستحيل تصور ذلك.
- السيناريو الأكثر احتمالا هو أن يكون القتلة هم من قام بالاعتداءيْن.
تنبيه:
بدل استنساخ رَوْسَم (كليشيه) الماسح الضوئي الذي لا يفقهه القارئ العادي، طلبنا من طبيب متخصص أن يمثل لنا على خطاطة رسم تقريبي أهمَّ المعلومات المستخلصة من الماسح الضوئي.
وننبّه هنا إلى أن التعليقات الواردة في الرسم ليست مكتوبة بالعربية.
1ـ الإشارة بعلامة (x) على مستوى مؤخرة الرأس (عظم القذال الأيسر) تدل على أثر الرصاصة.
2ـ الإشارة بعلامة (x) على مستوى الأذن اليمنى تدل على أثر الطعنة التي تلقتها هذه الأذن.
يبيّن هذا الرسم مسار الرصاصة (نقطة التصادم على مستوى مؤخرة الرأس أي عظم القذال الأيسر). ثم استقرت الرصاصة في الجانب الأيسر من الدماغ.
ملاحظات:
لقد أكد طبيب متخصص في جبر العظام والرضوض أن الرصاصة التي اخترقت عظم القذال الأيسر واستقرت في الجزء المقابل له من الدماغ قد أطلقها شخص أعْسَر (يستخدم يده اليُسرى). والحال أن المتوفى أيمن (يستخدم يده اليُمنى).
ومن جهة أخرى، ترى الشرطة أن الرصاصة قد أطلقت من "مسافة قريبة"، وهو ما يُفسّر وجود شعر محترق حول مكان الاختراق. وللتذكير، تكون "الطلقة اللاصقة" إما على مساس بالهدف أو تبتعد عنه بسنتمتريْن فقط.
وبالمقابل فإن الطلقة من "مسافة قريبة" (وهي الحالة التي تعنينا) يكون السلاح فيها على بعد 20 سم من الهدف.
فإذا ما أضفنا "المسافة القريبة" إلى طول المسدس (15 سم) نحصل على 35 سم. أضف إلى ذلك طول الذراع وحاول أن تطلق النار على عظم القذال الأيسر في مؤخرة الرأس. هذا التلوّي يكاد يكون مستحيلا خصوصا بالنسبة لرجل مسنّ ومنهك من جرّاء عملية جراحية.
حتى البهلوان الماهر سيصعب عليه القيام بهذا التمرين. ففي هذه الوضعية ستنطلق الرصاصة عشوائيا كيفما اتفق. فقد تصيب العنق، أو الرأس، أو أعلى الصدر، أو تنفلت في الفضاء الطلق دون أن تصيب هدفها. فلما ذا يلجأ المتوفى إلى تمرين بهذه الدرجة من التعقيد بينما كان أسهل عليه وأسرع أن يُطلق الرصاصة على صدغه أو في فمه؟
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن أحد الأطباء سمع في المستشفى يوم الفاجعة مفوض شرطة يقول عفويا وهو رفقة نائب الوكيل: "هذا انتحار". فما كان من الطبيب إلا أن رد عليه باستحياء: "الماسح الضوئي يقول غير ذلك".
لكن لا يهم! فقد تكلم المفوض. قُضي الأمر: المسألة تتعلق بعملية انتحار. لنطو الصفحة ولا داعي لنصدّع رؤوسنا ...
الخلاصة التي يمكننا أن نستنتجها من كل ما سلف هي أن أننا ظلمنا الفقيد مرتيْن: مرة عندما لم نلق القبض على قاتله أو قتلته، والمرة الأخرى عندما دنّسنا ذكراه بوصْمه بعار الانتحار وسُبّة قتل النفس.
ولعل من نافلة القول التذكير بأن أسرة المتوفى تظل تحت وقع الصدمة بفعل الانتظار المقلق أمام الجدار العاتي الذي يحجب الكشف عن ملابسات هذا الاغتيال.
ولم يبق للأسرة من ملاذ سوى اللجوء مباشرة، عن طريق هذه الرسالة المفتوحة، إلى رئيس الجمهورية لتلتمس منه إصدار تعليماته السامية من أجل استئناف التحقيق على ضوء الوقائع والمؤشرات الجازمة التي تم تجاهلها قصدا وبسبق الإصرار. ذلك أن أي تحقيق جدّي ينبغي ألا يحْدُوَه سوى البحث عن إظهار الحقيقة ناصعة.
وتقبلوا أسمى الاعتبار.
نواكشوط، في يوم السبت 17 أغسطس 2019
عن الأسرة
- موسى حرمة الله، أستاذ جامعي، حائز على جائزة شنقيط
- محمد الخامس ولد سيدي عبد الله، رجل قانون، نائب في الجمعية الوطنية