نواصل على بركة الله مع سلسلة الرؤى التطويرية لمنظومة المحظرة، وهذه حلقتنا الثالثة.
7. المحظرة والتبعية الإدارية:
هيكلة وتبعية القطاعات في الدولة الحديثة وسيلة لا غاية، وتخضع لجملة من الاعتبارات الفنية والوظيفية، تراعي في المقام الأول: الكفاءة والفاعلية في تقديم الخدمة، وتقريبها للجمهور المستهدف وفق مبدإ اللامركزية، وإزالة كافة أشكال التداخل والتعقيد، وفهم الجهة الوصية لفلسفة وطبيعة عمل الجهة التابعة، ووجود "قواسم مشتركة" بين النشاطات التي يتم تجيمعها في الوحدة التنظيمية الواحدة.
وبالنظر لطبيعة المحاظر، وكونها منظومة تعليمية إسلامية أهلية تعاونية في جانب كبير منها، فإن أنسب "كيان" للإشراف عليها وتطويرها: "هيئة عامة" مستقلة، تتسم بالمرونة وتبسيط الإجراءات، وتسلم من الرتابة والتعقيد، وإذا تعذر هذا الخيار يبقى الوضع الحالي أفضل من الاقتراحات المثارة، إذ أن "إدارة المحاظر" منسجمة تماما مع طبيعة عمل قطاع الشؤون الإسلامية، والعاملون بالوزارة ملمون بظروف المنظومة والتحديات التي تكتنف عملها، لكنه يلزم الانفتاح على أهل الخبرة والكفاءة من خارج القطاع.
أما مقترح تبعية المحاظر لقطاع التعليم فغير موفق في تقديري، لاختلاف فلسفة وآليات العمل، وعجز وزارات التعليم المتعاقبة عن معالجة أزماتها الداخلية، لذا فإنها عن معالجة أزمات غيرها أعجز، ومع ذلك فإن قطاع التعليم يمكنه أن يسهم بشكل كبير في تطوير وتيسير آليات التكامل والشراكة بين المدرسة والمحظرة، وإطلاق مبادرات للتوأمة والاستفادة المتبادلة خاصة في المراحل التأسيسية، كما يمكن تنظيم ودعم جهود معلمي البوادي والقرى في افتتاح المحاظر التمهيدية، وهو عمل نبيل قُدمت فيه مبادرات وجهود فردية مشكورة.
طبيعة وحدود التبعية:
ولسائل أن يسأل: ما طبيعة وحدود تبعية المحاظر للجهة الوصية؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: المنظومة المحظرية قطاعان:
أولا / قطاع عام: وهو عبارة عن المحاظر التي تؤسسها الجهة الوصية، وتمول بالكامل من ميزانية الدولة أو شركائها، فهذه تبعيتها كاملة، وتدار بشكل مباشر من الجهة الوصية.
ثانيا / قطاع خاص (أهلي): وهي المحاظر التي تأسست بجهود ومبادرات خاصة، فردية كانت أو جماعية، فهذه تخضع لإشراف الجهة الوصية، لكنها لا تتدخل في إدارتها، وقد تكون مواردها المالية أهلية بالكامل، وقد تتلقى الدعم من ميزانية الدولة، سواء كان هذا الدعم في شكل أصول ثابتة أو منقولة، أو موارد بشرية، أو إعانات نقدية وعينية.
8. الدرس المحظري ومرحلة التأسيس:
كان النموذج التعليمي السائد إلى وقت قريب يقتضي انتظام الطالب المحظري في مرحلتين:
الأولى / الدراسة ما قبل المحظرية: وتتولى فيها الأسرة أو من ينوبها (معلمو القرآن / الكتاتيب) مهمة التدريس التمهيدي والأساسي، وكان للمرأة دور ريادي في هذه المرحلة، التي يتقن فيها الطالب: تعلم القراءة والكتابة، وحفظ كتاب الله عز وجل، وحفظ مختارات من المعارف التأسيسية (في الفقه والأدب والسير والمغازي...)، ولم يكن التعليم المنزلي وحلقات الكتاتيب جزء من المنظومة المحظرية، ولا خاضعا لمواضعاتها وطرائقها.
الثانية / الدراسة المحظرية: بعد المرحلة التمهيدية والتأسيسية أعلاه، يأتي دور المحظرة في التعليم المتوسط والعالي (التخصصي).
أما الآن فتتداخل المرحلتان في غير انتظام، تأتلفان أحيانا وتختلفان أحايين، إذ لم يعد للمرأة في مجتمع المدينة نفس دورها التقليدي، كما فشلت الأسرة في إدارة عملية تفويض المهمة لمدرسي المنازل والكتاتيب، مما أثر بشكل كبير على مدخلات المحظرة، وقد كانت بعض المحاظر والمعاهد تشترط للقبول إتقان مرحلة التهجي، ثم أدركت عدم كفاءة الأسرة والمدرسة معا في تلبية هذا الشرط، فاضطرت لإلغائه وإضافة المرحلة التمهيدية، ليتأسس طلابها بشكل صحيح.
إن الواقع المعاصر والتحولات الاجتماعية التي فرضتها حياة المدينة تحتم إعادة النظر في التقسيم أعلاه، لتحتضن المحظرة جميع المراحل، وتستوعب طلاب الكتاتيب والمنازل، بعد تأهيل أساتذتها وموجهيها، وإكسابهم المهارات اللازمة لأداء هذه المسؤولية، وبذلك يتم التغلب على كثير من السلبيات والأخطاء، التي كانت مثار نقاش خلال السنوات الأخيرة، وتلقفها خصوم المحظرة واتخذوها ذريعة للنيل من المنظومة.
إن استيعاب المنظومة المحظرية للمرحلتين معا منسجم تماما مع مقرر الجهة الوصية رقم: 287 بتاريخ: 09/03/2015 القاضي بإنشاء نظام أساسي للمحاظر، حيث حدد ثلاث تصنيفات: أولية – ومتخصصة – وجامعة، وعرف المحظرة الأولية بأنها: هي التي تدرس القرآن الكريم ومبادئ الفقه واللغة.
9. الدرس المحظري .. متطلبات إلزامية ومقررات إضافية:
تطوير المنظومة المحظرية - كما مر معنا - لا يكون إلا بحفظ النموذج، والحرص على مزايا وخصائص الدرس المحظري، وأهمها: التخصص- الحرية والمرونة – مراعاة الفروق الفردية – وحدة المقرر (المتن)، ومع ذلك يمكن أن نضيف مقررات وتحسينات للنموذج، تضمن الاستفادة المثلى للطالب، وتكمل جوانب النقص في التأسيس العلمي، وتحقق متطلبات المعاصرة والتحديث، وذلك من خلال:
- تطوير وتنظيم المهمة الإشرافية والتوجيهية، لتشمل: تقييم مستوى الطالب، وربط مساره الدراسي بمدى زمني، ومتابعة أدائه واستفادته من البرامج، والتعامل مع حالات الانحراف عن الهدف، وإعادة الخطة التوجيهية في ضوء ما سبق، على أن يتسم كل ذلك بالصرامة والإلزام، وبدون هذا الضبط قد تمضي السنون ثم يصدم الطالب وذووه بضياع العمر في غير طائل.
- من التقييد المهم لحرية الطالب كذلك: إلزامه بمتطلبات دراسية تأسيسية بغض النظر عن تخصصه (متن صغير في كل فن)، ليحوز ما لا يسع المسلم جهله، ويؤسس بنيانه العلمي على أرضية صلبة، وهو تقليد معروف في كثير من الجامعات (حيث تفرض مجموعة من المقررات: متطلبات للجامعة ومتطلبات للكلية).
- مع ريادة وشمول الدرس المحظري قديما، فإن أهل هذه البلاد اعتنوا ببعض العلوم أكثر من غيرها، لذا يلزم أن تسعى المنظومة لإعادة التوازن، والاهتمام أكثر بالمقررات التي لم تنل حظها من العناية، وأهمها: علوم السنة رواية ودراية، والأدب العربي (المنثور)، وعلم التجويد (التطبيقي).
- ومن المقررات الإضافية اللازمة لطالب المحظرة: الثقافة والاتجاهات الفكرية المعاصرة – فقه المعاملات المعاصرة – النوازل المعاصرة وقرارات المجامع العلمية (وسنعرض في الحلقة الموالية لثقافة طالب المحظرة بشيء من التفصيل بإذن الله).
- ويجب الحرص كذلك على الأنشطة والبرامج الطلابية، لأنها تنمي مهارات وملكات الطالب المحظري، وتستثمر فراغه في عمل هادف، على أن تتعدد هذه الأنشطة وتتنوع: رياضة – ثقافة - مطالعات – مهارات خطابة وإلقاء – مهارات البحث والكتابة – برامج تعليمية وتدريبية بالشراكة مع المؤسسات الأخرى، لأن "القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة، وتسأم الفن الواحد" كما يقول الماوردي.