من مصطلحات الجغرافيا السياسية التي ابتكرها البحَّاثة المرحوم علي المزروعي (1933 - 2014) مصطلح "آفرابيا" Afrabia، وهو لفظٌ مركَّب تركيبا مزْجيًّا، يجمع بين أول "أفريقيا" Africa وآخر "الجزيرة العربية" Arabia في اللغة الإنكليزية. وقد أراد العلامة المزروعي أن يبيِّن من خلال هذا المصطلح التداخل الجغرافي والتاريخي والثقافي العميق بين القارة الأفريقية والجزيرة العربية. فمصطلح "آفرابيا" يشبه مصطلح "أوراسيا" الذي يجمع بين أوروبا وآسيا في لفظ واحد.
وقد ولد علي المزروعي في (مومباسا) بكينيا من أسرة إسلامية عريقة، ترجع جذورها إلى سلطنة عمان، فهو ينتمي انتماء مزدوجا إلى العالم العربي والأفريقي. وكان أبوه أمين المزروعي فقيهَ المسلمين وكبيرَ قضاتهم في بلده كينيا. وتخرَّج علي المزروعي من جامعات غربية عريقة هي جامعة مانشستر، وجامعة كولومبيا، وجامعة أوكسفورد، ثم درَّس بجامعة مكريري في أوغندا، وفي عدد من الجامعات الأميركية في ولايتي ميشيغان ونيويورك، وألف ستة وعشرين كتابا، وعددا وافرا من المقالات عن الثقافة الإفريقية والثقافة الإسلامية، واشتهر كثيرا بالوثائقي المعنون "الأفارقة" الذي أعده لهيئة الإذاعة البريطانية.
وقد وجدتُ في مفهوم "آفرابيا" عند المرحوم علي المزروعي مُلهماً للتأمل في التداخل الاستراتيجي بين القرن الأفريقي وما سأدعوه هنا "القرن العربي". فقد تداولتْ دراسات الجغرافيا السياسية المعاصرة مصطلح "القرن الأفريقي" منذ مدة مديدة، تعبيرا عن المنطقة الجنوبية الشرقية من القارة الأفريقية، التي تمتد في شكل مثلث عند تلاقي ثلاثة بحار، هي البحر الأحمر، وبحر العرب، والمحيط الهندي. ويستعمل علماء الجغرافيا السياسية مصطلح القرن الأفريقي بمعنيين، أولهما معنىً ضيق يشمل أربع دول فقط، هي الصومال وجيبوتي وأرتيريا وأثيوبيا. وثانيهما معنى متَّسع يشمل الساحل الكيني جنوباً، والساحل السوداني شمالاً. وبهذا التعريف الواسع تكون دول القرن الأفريقي ستًّا، لا أربعا فقط، كما هو الحال في التعريف الشائع. ونحن نلتزم هنا إجمالا بالتعريف الضيق للقرن الأفريقي.
على أن ما يهمنا في هذا المقال هو إبراز أوجه الشبه، والصلة الاستراتيجية العميقة، بين القرن الأفريقي، والقرن العربي، وهي صلة لم يهتمَّ بها الدارسون كثيرا، رغم أهميتها لسكان الضفتين العربية والأفريقية، وللسياق الإقليمي، بل وللعالم كله كما سنرى. ويمكن استعمال هذا المصطلح الجديد "القرن العربي" - شأنه شأن القرن الأفريقي - بمعنيين أيضا: معنىً ضيقٍ يقتصر على اليمن فقط، ومعنىً واسعٍ يشمل السعودية وعمان، إلى جانب اليمن طبعا. وإذا استعملنا مصطلح "القرن العربي" بهذا المعنى الواسع، فسيكون عندنا قرنان عربيان، لا قرن واحد: قرن الجزيرة العربية من الجهة الجنوبية الشرقية، وهو المطل على مضيق هرمز عبر سلطنة عُمان، وقرن الجزيرة العربية من جهة الجنوب الغربي، وهو المطل على مضيق باب المندب عبر اليمن. وسيتركز القول في هذه الورقة من (أوراق الربيع) على العلاقة بين القرن الأفريقي والقرن العربي الجنوبي الغربي المطل على باب المندب.
لكن قبل الخوض في مظاهر التداخل بين القرن الأفريقي والقرن العربي، وبيان التنافس الإقليمي والدولي عليهما، نحتاج أن نعرِّف القارئ العربي ببِنْية القرن الأفريقي ودلالاتها الاستراتيجية، خصوصا ما توفره الجغرافيا السياسية من فرص لكل دولة من دوله الأربع، وما تفرضه عليها من قيود:
1. فالصومال: هي عمق القرن الإفريقي إستراتيجياًّ، لأنها تملك أطول ساحل عليه، مما يؤهلها لدور مستقبلي مهم، وإن كانت مشكلاتها البنيوية المزمنة لا تزال تحول بينها وبين ذلك الدور.
2. وجيبوتي هي أصغر دول القرن الأفريقي حجما من الناحية الجغرافية، لكنها أكثر الدول الأربع تحكما بمضيق باب المندب، بحكم موقعها المطل مباشرة على المضيق.
3. وأريتريا تملك ساحلا طويلا على القرن الأفريقي، لكن كانت لديها - إلى عهد قريب - مشكلات مزمنة مع أثيوبيا، مما شوَّش على تموقعها الاستراتيجي.
4. وأثيوبيا هي أكبر دول القرن الأفريقي وأقواها عسكريا واقتصاديا، لكن حرمانها من السواحل - منذ استقلال أريتريا - يقيِّد يديها، ويحرمها من استثمار قوتها وحجمها.
ويمكن إجمال أوجه الشبه القرن الأفريقي والقرن العربي في أمور أربع:
1. إطلالة كل منهما على مضيق باب المندب، وهو ممر حيوي لتدفق الطاقة والتجارة العالمية، مما يجعل للضفتين الأفريقية والعربية أهمية خاصة للمجتمع الدولي والتجارة الدولية العابرة للبحار.
2. وجود دول ساحل ودولة عمق كبيرة محرومة من السواحل المطلة على باب المندب (أثيوبيا في حالة القرن الأفريقي، والسعودية في حالة القرن العربي).
3. وجود أمراض سياسية ذات أعراض أمنية، مما خلق ظاهرة الدول المنهارة على الضفتين (الصومال واليمن)، وأفسح الطريق أمام جماعات عنف عابرة للحدود، وقرصنة وإرهاب يهددان تدفق الطاقة.
4. احتدام الصراع بين الثورة والثورة المضادة في الإقليم كله، بوجهيه العربي والأفريقي، بكل ما يحمله ذلك من استقطاب داخلي، وتجاذب إقليمي، وصراع دولي، على الضفتين.
وقد تفاوتت الأدوار الاستراتيجية التي طمحت دول القرن الأفريقي إلى الاضطلاع بها في الأعوام الأخيرة:
1. فجيبوتي تحولتْ سوقا مفتوحا للقواعد العسكرية (الأميركية والفرنسية والصينية والإيطالية.. وغيرها). ويبدو أن أولويتها الاستراتيجية هي الاستفادة من حاجة الجميع إليها، وكسْب اعتبار الجميع.
2. والصومال اقتربت كثيرا من المحور التركي القطري، أملا في التغلب على ميراث الحرب الأهلية، ومشكلة السيادة المستباحة، خصوصا مع التدخل الإماراتي في شمالها (جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها).
3. وأريتريا لعبت على التناقض بين كل الأطراف، لكنها كانت أقرب للتحالف الضمني مع محور الإمارات والسعودية ومصر، وكانت لديها عداوة مزمنة مع أثيوبيا، لكن الدولتين تصالحتا مؤخرا.
4. أما أثيوبيا فقد ظلت دائما تسعى للعب دور الأخ الأكبر في القرن الأفريقي، وهي تملك شرعية لذلك من الاتحاد الأفريقي، لكن الحرمان من السواحل البحرية يقيِّد مسعاها، كما ذكرنا من قبل.
وتبدو الدولة العربية الأكثر نشاطا - بالمعنى السلبي - على القرن الأفريقي هي دولة الإمارات العربية المتحدة. فقد سعت الإمارات خلال الأعوام الأخيرة إلى الهيمنة على سواحل القرنين الأفريقي والعربي على حد السواء، فنثرتْ قواعدها العسكرية على القرنين:
1. على القرن العربي، حيث أسست قواعد عسكرية على طول الساحل اليمني، منها القواعد الموجودة في (المكلا)، و(عدن)، و(جزيرة ميمون)، و(ذو باب)، و(المخا). وفي جزيرة (سقطرة) التي تنتمي سياسيا للقرن العربي لأنها جزء من أرض اليمن، لكنها أقرب جغرافيا للقرن الأفريقي.
2. وعلى القرن الأفريقي، حيث أقامت الإمارات أيضا قواعد عسكرية عدة، منها قاعدتا (بوصاصو) و(بربرة) في الصومال، وقاعدة (عصب) في أريتريا.
ويتسم الوجود الإماراتي في القرن الأفريقي بتبني منظور إقصائي، لا يرى مكانة له إلا على حساب الأشقاء والجيران، ويحرص على احتكار السيطرة على السواحل والمنافذ، وإلى البرهنة للقوى الدولية ذات المصلحة أنه الوحيد المؤهَّل والمؤتمَن للاضطلاع بدور حارس القوافل البحرية والتجارة الدولية. وفي سبيل هذا المسعى لم تتردد قيادة الإمارات في اقتراف فظائع ضد اليمنيين على القرن العربي، ونشر ثقافة الاحتكار السياسي والاقتصادي المانع من أي تعاون على القرن الأفريقي. وقد أصبح الحضور الإماراتي في القرنين العربي والأفريقي ضيفا ثقيل الظل على الضفتين، مما يعني استحالة بقائه - بصيغته الحالية - على المدى البعيد.
وفي مقابل هذا الوجود الإماراتي الإقصائي وغير المرغوب فيه، بنت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في الصومال، واستثمرت هي وقطر استثمارات ضخمة في العمل الإنساني وفي البنية التحتية الصومالية، فكسبت الدولتان ثقة عامة السكان وغالبية النخب السياسية الصومالية الطامحة إلى تضميد جراح بلدها، بعد معاناة طويلة مع الحروب الأهلية والمعضلات البنيوية. ويتسم الاستثمار السياسي والاقتصادي التركي القطري بتبنِّي منظور احتوائي تعاوني، يسعى للتوفيق بين مصالح الجميع، ويحترم الخيارات السياسية لشعوب القرنين الأفريقي والعربي، وطموحها إلى التحول الديمقراطي السلمي.
وإذا وسَّعنا النظر في القرن الأفريقي الكبير فسنجد سعيا تركيًّا في الأعوام الأخيرة لتحقيق حضور لها في السودان أيضا، من خلال مشاريعها في جزيرة (سواكن) السودانية، وإن كانت الثورة المضادة العربية التي تولى كِبْرَها قادة الإمارات والسعودية ومصر قد ألقت بظلالها على الوجود التركي في السودان بعد سقوط عمر البشير، بل ربما يكون من دوافع تخلي الإمارات والسعودية عن حليفهما البشير، وتواطؤهما في الانقلاب عليه، هو مضايقة الاستثمار التركي والقطري في السودان، بقدر ما يستهدف مصادرة الثورة الشعبية السودانية ضد البشير، وقطف ثمارها بعيدا عن مطامح الشعب السوداني إلى الحرية والتنمية.
ويمكن تلخيص الحضور الإقليمي على القرنين العربي والإفريقي فيما يلي:
1. الإمارات: أكثر الدول الإقليمية حضورا على القرنيْن، وأكثرها مجازفة وأعداءً، وقد تؤدي مجازفاتها إلى مخاطر على الجميع.
2. السعودية: لها حضور كثيف في حرب اليمن، ودورٌ باهت في القرن الأفريقي، لكن الإمارات تغطي على دورها على الضفتين.
3. تركيا وقطر: لهما حضورهما القوي في الصومال (وبدرجة أقل في السودان)، لكنهما تقفان على النقيض مع السعودية والإمارات في عدد من الملفات الإقليمية.
4. إيران: موجودة - ضمنيا - في اليمن من خلال حليفها الحوثي، وتطمح إلى انتزاع موطئ قدم على باب المندب، كما تحاول الاستفادة من جزر القرن الأفريقي لإمداد الحوثيين بالسلاح والتدريب.
وقد ألقت الأزمة الخليجية بظلالها على القرنين العربي والأفريقي، حيث مزقت هذه الأزمة الكتلة العربية على القرن العربي، وحرمتْها من المساعدة في تخفيف أزمات القرن الأفريقي، فتحول اليمن إلى عبء على القرن الأفريقي، وقد كان متنفَّساً وملاذا للَّاجئين الصوماليين وغيرهم. وقد تمدَّد الاصطفاف الذي نتج عن الأزمة الخليجية إلى اصطفاف على القرن الأفريقي، حيث نجد الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل في جانب، بينما نجد تركيا وقطر والصومال (وبدرجة أقل أثيوبيا) في جانب. ولا تبدو القوى الدولية مهتمة برأب الصدع على أي من القرنين الأفريقي والعربي، بقدر ما تغذيه وتستغله.
ومع هذا التنافس الإقليمي على القرنين الأفريقي والعربي يوجد نوع من التساكن الدولي الذي لا يرقى إلى مستوى التعاون، ولا ينزل لمستوى التصادم. حيث يوجد حضور عسكري لأطراف دولية عدة على القرن الأفريقي، منها: أميركا، وفرنسا، والصين، وروسيا، واليابان، وإيطاليا، وتتساكن هذه القوى الكبرى على القرن الأفريقي، وتراعي مصالحها المشتركة المتمثلة في حرية تدفق النفط والتجارة العالمية عبر باب المندب، ومحاربة جماعات القرصنة والعنف الفوضوي. لكن لا توجد مؤشرات على تعاون وثيق بين هذه الأطراف الدولية.
وخلاصة الأمر أن التداخل بين القرن الأفريقي والقرن العربي يتعمَّق يوما بعد يوما، تغذيه روابط دينية وبشرية وتاريخية ضاربة الجذور، وتعضّده حتميات الجغرافيا التي لا تخضع للأمزجة السياسية. فليس من الممكن التغلب على المشكلات البنيوية المزمنة على القرن الأفريقي والقرن العربي إلا بتعاون أهل القرنين، ودعم القوى الإقليمية والدولية، بما يضمن مصالح الجميع. ولعل من أولويات الحل إنهاء حرب اليمن فوراً قبل فشل الدولة فشلا كاملا، وما سيتركه ذلك من آثار كارثية، كما حدث في الصومال من قبل. وإنهاء الأزمة الخليجية، لكي يستعيد القرن العربي تماسكه ويستأنف دورا معقولا في التعاطي مع القرن الأفريقي. فالقرن الأفريقي والقرن العربي في مسيس الحاجة اليوم إلى منظور استراتيجي جديد، يدرك وحدة القرنين حالاً ومآلاً.
نقلا عن مدونة الكاتب ضمن مدونات الجزيرة