(12) المحظرة وأشواق التحديث:
تعالت نداءات المطالبين بتحديث المنظومة المحظرية منذ نشوء الدولة، وبدء موجات النزوح إلى المدن، وما ترتب على ذلك من نزيف في القلاع المحظرية التقليدية، قابله ضغط على المحاظر الوليدة، ونظرا لأن توسع المدن كان فجائيا فوضويا ودون بنى تحتية، كان انتشار المحاظر كذلك، فظهرت تحديات الضبط والتنظيم، والمواءمة بين المدرسة والمحظرة، ومع كل هذا لم تُقدَّم حتى اللحظة مقاربات جادة للتطوير، ولم تسهم الجهات الوصية في صياغة استراتيجية واضحة المعالم تنهض بالقطاع، ولم تُرصد الإمكانات البشرية والمادية اللازمة.
هذا الفراغ أدى لاشتباك رؤى ومطالب كثيرة في فضاءات النقاش، لم تجتمع في إطار منظم ليُستخرج منها الصواب، بل لا تزال لكلٍّ وجهة هو موليها: ناصحون أمناء يحملون هم الإصلاح، لا تجمعهم خطة ولا يملكون من الإمكانات ما يكفي، وأصحاب مصالح وأجندات، يرفعون شعار التحديث رغم عدم اطلاعهم على تراث المحظرة وواقعها.
وقد ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات نشاز، أسكرت أصحابها لوثات وافدة، يعلنون عداءهم للمنظومة، ويسفهون علم وفهم خريجيها، رؤيتُهم للتحديث لا تتجاوز إخضاع المحظرة ومناهجها لأهوائهم، وما دروا أن الاسلام دين كامل شامل مهيمن، لا يقبل الإخضاع للموضات الفكرية الآفلة، التي تطفو زمانا على مسرح الأحداث ثم تخبو، وقد رأينا كيف يبدل هؤلاء جلودهم عند كل تحول في سلطان الثقافة، فقد نظَّروا للجهاد وللعقوبات التعزيرية إبان حقبة الثورات وسيادة "فلسفة القوة" في النصف الأول من القرن العشرين، ثم اجتالتهم دعاية "الفكر الاشتراكي" في الستينات والسبعينات، وأذابهم الوجد أخيرا بالفلسفة الإنسانية وأشواق الحرية، وقد حاولوا في كل مرة إنتاج قراءة للإسلام توافق أمزجتهم، ثم اندثرت تلك الأهواء وبقي الإسلام، محفوظا بحفظ الله جل وعز.
فلننطلق في تطوير المنظومة من حقيقة أن الإسلام هو الإسلام بكماله وشموله، يهيمن على غيره ويخضعه، ولا يقبل التلفيق أو التوفيق، ويملك من أدوات الاجتهاد ما يفي بمتطلبات الواقع، لكن بشرط الرجوع إليه وتحكيمه في دنيا الناس، لتتسع دائرة الاجتهاد وتبنى الفروع على الأصول، والتاريخ شاهد على أن عمق وأصالة الصناعة الفقهية في جميع المذاهب تبع للتطبيق العملي لها في حياة المسلمين.
إن التحديث الراشد يقتضي - أيضا - التعامل بحذر مع البرامج والمقترحات التي تصدر عن المنظمات الأجنبية، لأنها تنطلق من خلفيات ثقافية ودينية مغايرة لبيئة المحظرة، ولها مصالحها وأجنداتها الخاصة، وبعضها جزء من أدوات الاستعمار الثقافي، ومعلوم أن الخصم لا يكون حكما، والمفسد لا يكون مصلحا، وحين يكون في مراكز القرار "سماعون لهم" تمرَّر سياسات المحاصرة والتجفيف، فيحكم بالقتل البطيء على قلاع الدين والعلم العتيقة.
وعلى صانعي القرار النظر بعمق وروية في مآلات البرامج والمقترحات مهما كان بريقها، حتى لا تذهب بخريجي المحظرة بعيدا عن ميدان العلم وما يتصل به، كما حصل في تجربة "مركز التكوين المهني لطلاب المحاظر"، فلا أزال أذكر – بعد ربع قرن - ذلك الشيخ الفقيه المفسر يتخلل لحيته غبار النجارة، وذلك الفتى العصامي وهو يحمل أدوات السباكة بدل القلم!.. أليس أنسب لهؤلاء خدمة العلم، وصيانة التراث بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي مثلا، أو في ميدان التعليم والتربية، بعد أن يكتسبوا القدرات والمهارات اللازمة؟!.. على أن يخصص مركز التكويني المهني للذين تسربوا من المحظرة في مرحلة مبكرة، ولست هنا في معرض الإزراء بهذه المهن، فمن أئمتنا الحذاء والفراء والكسائي والصابوني، وإنما قصدت ضرورة الاستفادة المثلى من خريجي المحظرة، في المجالات التي تناسب تأسيسهم العلمي.
(13)
المحظرة حاضنة تربوية:
قال محدثي: انتقلت حديثا من العاصمة إلى إحدى مدن الداخل لظروف العمل، وبعد بحث وتقييم للبدائل وقع الاختيار على محظرة لتدريس الأبناء، تتميز بالجد في التدريس والحرص على جودة الحفظ، لكني أسفت كثيرا لغياب مظاهر الاستقامة والتربية لدى مدرسيها قبل طلابها، لذلك فإني أحن إلى محظرتهم في العاصمة، وأدعو صباح مساء للقائمين عليها، فقد ربوا أبنائي على مكارم الأخلاق، وغرسوا فيهم القيم الأصيلة والهدي النبوي.
لقد ذكرني هذا الموقف - الذي يؤكد مركزية التربية في الدرس المحظري- أن إحدى المحاظر المطورة التي يشرف عليها أساتذة أفاضل حددت معدلا معينا في تقييم الأداء كشرط للقبول والانتظام فيها، لكنها وجدت عقبة في التخلص من الطلاب غير المجتازين، إذ كان رد أولياء الأمور: حتى لو لم يستفد الطالب علما، نريدكم أن تغرسوا فيه الأخلاق، وتربوه على قيم الإسلام، فعودته للبيت والشارع ضياع محقق!.
إن الاهتمام بجوانب الارشاد والتوجيه ومعالجة المشاكل السلوكية أضحى ضرورة ملحة، يجب وضعها ضمن أولويات الإصلاح، فليس حشو ذهن الطالب بالمعارف النظرية كافيا للتحصين من الأخطار التي تتخطف النشء، والمغريات التي تحيط بهم من كل جانب، وأولى الخطوات في هذا السبيل تخير المدرسين من أهل الاستقامة، وتدريبهم على المهارات والأساليب التربوية اللازمة، مع انتهاج طرائق جديدة لعلاج جنوح الأطفال بعيدا عن الضرب والتعنيف، سدا لذريعة التنكيل بفلذات الأكباد، واستجابة لرغبات أولياء الأمور.
إن القلاع المحظرية التقليدية متباينة جدا في اهتمامها بالتزكية، ولا تزال المقررات والبرامج تعاني ضمورا في هذا الجانب، مما يستدعي خططا محدثة تجمع بين النظرية والتطبيق، يسندها نظام لضبط البيئة الداخلية للمحظرة، على أن توضع المرتكزات التالية في الاعتبار:
- إلزامية البرنامج التربوي، وتغطيته لأصول الأخلاق والحقوق والواجبات، إضافة إلى مختارات من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم في الرقائق وفضائل الأعمال.
- الاهتمام بأداء الشعائر وتعظيمها، والعناية بصلاح الظاهر وصلاح الباطن.
- التربية بالقدوة الحسنة، وأول ذلك التعريف بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتعميق روح الاقتداء والتأسي، ثم الاستئناس بسير الصحابة وأئمة العلم والزهد.
- تحصين الطالب من أمراض البيئة المحيطة وتوعيته بأخطارها، وإكسابه المناعة اللازمة لحمايته من الشهوات والشبهات، والسعي لمعالجة المخالفات السلوكية والنظامية بأسلوب تربوي متكامل، ينطلق من مبدأ النصح والتوجيه، ولا يلجأ للتعنيف إلا بما تمليه الضرورة.
- وضع نظام انضباط واضح المعالم، وتحديد الإجراءات التأديبية التي تطبق عند إخلال الطالب بهذا النظام، وفي مقابل هذه الجزاءات يجب الاهتمام بالتحفيز، وخلق بيئة تنافسية تشجع على الاستقامة والنبوغ والتميز.
- الحرص على فصل الطلاب حسب المستوى والعمر ما أمكن، لأن دمج المستويات - مع الفروق الكبيرة بين الطلاب - قد يكون عائقا للعملية التربوية.
- فتح قنوات اتصال دائمة مع أولياء الأمور، والسعي للتعاون والتكامل بين الأسرة والمحظرة.
وغني عن القول بأن التربية ليست مقررات معزولة، يتم تلقينها للطالب وينتهي الأمر، بل هي روح تسري في الحياة، تُرسم في إطارها الأنشطة والبرامج، وتتحدد العلاقة مع البيئة المحيطة.