ينظر كثيرون باستعجال إلى رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، ويعبرون بقسوة أحيانا عن استعجالهم لخطوات كبرى ينتظرون أن يقوم بها الرجل، ويزيد بعضهم بوضع خطوات يراها معيارا لنجاح أو فشل الرئيس في الوفاء بالتزاماته وعهوده.
وهناك آخرون استعجلوا الحكم، وقضوا بفشل تجربة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قبل انقضاء شهره الأول.
وإذا كان التقييم حقا من حقوق التعبير عن الرأي يمكن لكل أن يدلي برأيه فيه، فإن من حقنا كمؤيدين للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وبرنامجه الانتخابي، والمشروع المجتمعي الذي بشر به، أن نطالب من يريد تقييم تجربة الرجل في الحكم بأمرين على قدر كبير من الأهمية:
* - الأول أن يعطي الرجل فرصة زمنية يمكن فيها تقديم حكم قريب من الموضوعي على أدائه، وأقل ذلك أن يجتمع من الإجراءات ما يمكن من إعطاء صورة شبه دقيقة عن خريطة تفكيره، والأولويات التي ينظر من خلالها إلى الشأن العام، والمداخل التي يريد منها تحقيق وعوده، كما يراها هو، لا كما يفترضها الآخرون، ولا كما يريدونها.
* - الثاني أن تأخذ هذه الإجراءات مدى زمنيا يسمح بتقييمها، ويضعها على محك التطبيق فترة كافية للحكم على نجاعتها، أو عدم نجاعتها، ويمكن من مراجعة بعضها، إن ثبت عدم جدوائيته.
إن أي حكم قبل تحقق هذين الشرطين أقرب إلى أن يكون حكما مسبقا، أو استنتاجا مبنيا على قياس غير مستوف لشروط القياس، أو افتراض بتشابه شخصية الرئيس مع شخصيات آخرين، أو وضعه في مربع معين لا يقبل له الذين يقيمون بهذه السرعة الخروج عنه، ويكون الاستعجال في التقويم لترسيخ الصورة التي رسموها، والتي يريدون تكريسها عن الرئيس، وعن نظام حكمه.
إن الذي يمكن القيام به حتى الآن هو تلمس ملامح طريقة تفكير الرئيس في الملفات الكبرى، وطرق المعالجات التي سيقترحها للملفات. ومن الواضح أنها لن تذهب بعيدا عن الطريقة المأثورة عن الرجل في إدارته للملفات التي تولي قبل الرئاسة.
وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة ملامح رئيسة طبعت سلوك رئيس الجمهورية في الشهرين الماضيين، ويمكن القول إنها ستستمر في قابل الأيام:
* - الأناة، وطبخ القرارات على نار هادئة:
إن أبرز القرارات التي اتخذها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني كانت تشكيل الحكومة، وقد أخذت وقتا طويلا بالمقارنة مع المدد التي كان يستغرقها تشكيل الحكومات في موريتانيا، ولكن الواضح أن هذه المدة لم تكن تراخيا، ولا تسويفا من غير طائل" فقد خرجت الحكومة منضبطة لكل التوازنات الدقيقة التي تتشكل على أساسها الحكومات في البلد، وأفضل دليل على ذلك أننا لم نشهد احتجاجات، أو انتقادات منطقية للتشكيلة من زاوية التوازنات المرعية. وكانت الانتقادات الموجهة إلى الحكومة متعلقة بتقييم صلاحية هذه الشخصية لهذه الحقيبة أو تلك مما تتسع له المسافات بين وجهات النظر.
إن هذه الحالة تشير إلى حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن الاستفادة من خبرة الرئيس بالخريطة السياسية والاجتماعية وتمظهراتها، كانت استفادة عميقة، وأخذت الوقت الكافي لتجسيدها في تشكيلة حازت رضا الجميع، أو على الأقل أوجبت صمتهم في انتظار الأداء.
ومن أكبر مؤشرات هذه الأناة في اتخاذ القرارات عدم اتخاذ الحكومة لأي إجراء خصوصي لحد الساعة باستثناء تغيير مدير اسنيم الذي كان لأسباب خاصة، تتعلق بوضعية الشركة ودورة مجلس إدارتها السنوية.
* - كسر جدران القطيعة؛
رغم ما شهدت السنوات الماضية من إنجازات ملموسة على اكثر من صعيد الا ان النظام السياسي لم يخل من هنات واختلالات ؛ فبلغ انهيار الثقة بين القوى السياسية في الموالاة والمعارضة مداه، وأصبحت البلاد تعيش على حالة احتقان وان شئت احتقار متبادل بين السلطة ممثلة في الحكومة ورئاسة الجمهورية، وقوى المعارضة ممثلة في أحزابها، وشخصياتها الرئيسة، وشبابها ومنتخبيها.
وقد كانت أولى خطوات المعالجة هي التصريح من خلال الأفعال الصريحة في وضح النهار أن عهد القطيعة قد ولى. ليس مما يلزم من هذا التصرف أن هناك إشراكا في السلطة، أو تحويل القرار لقوى المعارضة، وإنما هو إعلام بأن عهد عدم الثقة وجدران القطيعة قد انتهى، وأن النظام السياسي جاد في رسم مشهد جديد لا يعني استيعاب كل القوى السياسية في جهاز السلطة، وإنما يعني أن الدولة مختلفة عن السلطة، وأن الدولة الموريتانية تسمع من الجميع، وتخاطب الجميع، فيما يمارس السلطة من انتخب لذلك، ويمارس المعارض مهمته التي انتخبه الناس لها.
* - الرئيس الحاكم،
وليس الرئيس المدير ، أو الرئيس يومي الظهور.. وما يكرس هذه الصورة هو كون الرئيس لم يلق خطابا أو يدل بأي تصريح منذ استلام السلطة، كما أن الإجراءات يتخذها الوزراء دون ذكر رئيس الجمهورية في كل صغيرة وكبيرة.
ومن شأن مثل هذا السلوك أن يعيد الاعتبار- مع الوقت- إلى جهاز الدولة، ويفرق المسؤولية إلى مستويات الإدارة كلها بدل ربط كل شيء برئيس الجمهورية. إن الصورة التي يظهر بها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هي صورة الرئيس الحاكم الأعلى الذي يدير الكليات، ويشرف على تنظيم الأمور العامة دون الإغراق في التفاصيل، ونيابة الوزراء والمسؤولين في مهامهم، أو تحمل المسؤولية بدلا عنهم.
إن تكريس صورة الرئيس الحاكم بين المؤسسات، والراعي لهيبة الدولة كسلطة عليا فوق الجميع، من شأنه أن يعيد شيئا من التمييز بين معنى الدولة، ومعنى النظام السياسي، وقد اختلطا كثيرا في أذهان الموريتانيين.
إن هذه السمات البارزة تستمد قوتها، واستمراريتها من شخصية الرئيس محمد ولد الشي الغزواني، ومن فلسفته في إدارة الدولة، ومن تابع خطاباته خلال الحملة الانتخابية يدرك أنها ليست وليدة الصدفة أو الظروف، ولكنها تصرفات واعية تنبع من قيم رجل الدولة وشخصية القائد.