يعد كتاب صناعة الفتوى وفقه الأقليات لمعالي فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن بيه كتابا نادرا وعظيما في بابه.
وقد تضمن هذا الكتاب كنوزا زاخرة من المعارف خصوصا فيما يتعلق بالفتوى وأهمية أحوال المفتي والمستفتي ولذلك لا غنى لأي شخص يريد التصدر للإفتاء عن هذا الكتاب.
فهو قد قدم لهذا الكتاب بمقدمة عجيبة ذكر فيها أهمية الفتوى وسلمها في الشريعة
وكذلك في المقدمة شذرات كالجوهر تبين خطورة التقدم لهذه المهمة العظيمة وهي التبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
تناول فيه تعريف النازلة والفتوى في اللغة والاصطلاح وخطر الفتوى وآداب الافتاء ومسؤولية المفتي.
وفِي ضمن ذلك تطرق لفصول ثلاثة عظيمة في بابها جميلة في محتواها وكنزها العلمي
الفصل الأول: ما به الفتوى والأدلة المعتمدة في عهد الصحابة.
الفصل الثاني: تعريف المفتي والمفتى به في المذاهب الأربعة.
الفصل الثالث: نماذج من منهجية الفتاوى والنوازل وأمثلة منها بعد عصر المجتهدين مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة منها في التعامل مع القضايا المستجدة.
وَمِمَّا يحسن بِنَا أن نذكره هنا في المقدمة قوله: (إن درجة الإفتاء في الشريعة منيفة ومرتبة صاحبه مرتبة شريفة، ولهذا كان فن النوازل والفتاوى من الفنون الأصيلة في الفقه الإسلامي والتي اشتهرت إلى جانب النصوص والشروح والتعليقات، ولكل زمان نوازله وفتاويه تنوعت بتنوع الحوادث والوقائع وتعددت بتعدد اجتهادات المجتهدين واختلاف أهل الصنائع.
وما أحوجنا في هذا الأوان لضبط الفتاوى التي تراوحت بين شدة في غير موضعها وسهولة في غير محلها فاستحالت السهولة إلى تساهل والشدة إلى غلو وتنطع.
وإنما ذلك ناشئ عن عدم الإلمام بأصول الفتوى عند الأوائل من مجتهدين ومقلدين فانتحل صفة المجتهد من نزل عن درجة المقلد البصير واستنسر البغاث واستبحر الغدير).
من خلال هذه المقدمة يدرك القارئ للكتاب أنه من الأهمية بمكان وأنه يحتاج لأكثر من قراءة لأن تأليفه لم يكن من فراغ.
ثم تطرق بعد ذلك إلى الصنف الثاني من التأليف وما هو بالأخف إذ هو عظيم وتحتاج له الأمة وهو فقه الأقليات حيث قال في مقدمته: (ولما كان أهم مجال تدعوا فيه الحاجة إلى تعبيد طرق الاجتهاد واستنباط وسائل الإفتاء هو وضع الأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة، فإننا سنتوقف عند جملة من القضايا التي تعنى بها هذه الأقليات لتكون مجالا لتطبيق قواعد التيسير وتنزيل الحاجات منزلة الضرورات وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ولهذا سمينا كتابنا هذا بـ{صناعة الفتوى وفقه الأقليات}.
وقد تطرق إلى تعريف المصطلح ونعني به فقه الأقليات ومقاصده وأهميته ومنهج تحرير الاجتهاد فيه.
ثم ذكر قواعد كبرى يحتاجها الفقيه في فقه الأقليات ونذكر من هذه القواعد التي ذكر الشيخ:
- قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان، وهذه القاعدة لما لها من العظم قد ذكرها العلامة ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين وقد استفاض في هذه القاعدة المهمة وحررها تحريرا علميا نادرا.
- الثانية قاعدة التيسير وهي قاعدة كبرى من القواعد التي بني عليها الفقه الإسلامي.
- الثالثة قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة وهي قاعدة تتعلق بعلم المقاصد ولها من الفوائد ما يضيق المقام عن عده.
- الرابعة العرف وتحقيق المناط ولكل من العرف وتحقيق المناط كثير فائدة إذ بتحقيق المناط تتبين الأشياء ولا شك أنه مفيد جدا للفقيه لأنه كما قال إمام المقاصد الأكبر إبراهيم بن موسى الشاطبي (وفيه مجال للمجتهد إلا أنه صعب المورد محمود الغب جار على مقاصد الشريعة الإسلامية).
وبالعرف تعرف عادة كل قوم ولأن العرف يرجع إليه في كثير من الأمور الهامة.
- القاعدة الخامسة قاعدة النظر في المآلات وما أعظمها وأهمها من قاعدة وهذه القاعدة هي التي أرسى دعائمها أبو المقاصد الأكبر إسحاق ابن ابراهيم ابن موسى الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات وعدد من أمثلتها قول علي رضي الله عنه في جلد شارب الخمر (إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فعليه حد المفتري).
- القاعدة السادسة والأخيرة تنزيل جماعة المسلمين منزلة القاضي وهذه القاعدة العظيمة في معناها الجميلة في مبناها قاعدة عظيمة النفع جليلة القدر إذ يتفرع عليها تصرفات المراكز الإسلامية في قضايا الأقلية المسلمة الشرعية ومستندها شرعا، لأن الشريعة الإسلامية رتبت شؤون الناس بناء على حكمة بالغة ومصالح قائمة.
وقد حددت المسؤوليات وأناطتها بجهات معينة مكلفة بما اصطلح على تسميته بـ(الخطط الشرعية) وقد عددوا من هذه الخطط القضاء ويتولاه قضاة يعينهم ولي الأمر بمواصفات معروفة في كتب الفقه وأولها العلم والديانة الخ.
وخلال تعرضه لفقه الأقليات وأهميته أضاف أمثلة عظيمة النفع لها تعلق كبير وأهمية خاصة بفقه الأقليات وسنذكر هنا هذه الأمثلة لكننا لا نتعرض لها بالتفصيل فذلك قد كفانا مؤنته الكتاب لمن سيقرؤه وهذه المسائل هي:
- الإقامة بغير ديار المسلمين والتجنس بجنسياتهم.
- تأثير الدار على حكم المعاملات.
- الولاء بين الدين وبين المواطنة.
- العلاقات الإنسانية وحسن التعامل وتحتها زمرة من القضايا.
- تأثير الاستحالة وانقلاب العين في طهارة بعض الأطعمة.
- قضية حجاب المرأة.
- ملحق بفتاوى في فقه الأقليات مع التعليق على بعضها تعضيدا أو نقدا وتسديدا.
ثم بعد ذلك ختم الكتاب بخاتمة مسك جميلة ذكر فيها أنه كان همه هو إبراز جملة من القضايا قد تدور في أذهان المتعاطين للفتوى كما قد تساور نفوس متلقي الفتوى من الأفراد والجماعات.
أثار الخاتمة باستشكالات مطروحة قد يطرحها القاري للكتاب وأولها هو تسمية الصناعة أي صناعة الفتوى، وقد أبان الشيخ في المسألة، وأوضحها غاية الإيضاح حتى صارت كالشمس في وضح النهار.
خلال سرده للخاتمة التي ليست أقل شأنا عن الكتاب ذكر بأن الاجتهاد البشري في أجلى صور تعامله مع الوحي الالهي وقد برزت ثلاثة أمور للمجتهدين هي:
الأمر الأول: ظهور أدلة ما كانت لتظهر في زمن الوحي، فقد ظهر الاجماع والاجتهاد بالرأي من خلال تعامل الخلفاء مع قضايا لا نص فيها، حيث يجتمع رؤوس الناس وأعيانهم، وذلك ما يعني دعوة الفقهاء للاتفاق على مسألة.
أما الاجتهاد بالرأي وهو أعم من القياس فقد ظهر جليا في كثير من القضايا.
الأمر الثاني: هو بروز عامل الزمان في التعامل مع النصوص الشرعية مما يعني أن المصالح الحادثة أصبح لها وزن مقدر من غير صاحب الوحي.
وبعبارة أدق برز توجه مقاصدي كما يقول الشيخ إلى جانب النصوص الجزئية لتخصيص عمومها إن لم يكن في الدلالة فهو تخصيص في الزمان كمسألة النفي والقطع في زمن المجاعة والضوال وتوريث مطلقة المرض وتضمين الصناع.
الأمر الثالث: ظهور الاختلاف الناشئ تارك عن دلالات الألفاظ والناشئ تارة أخرى عن معقول الشارع، وهو ما يسمى بالاختلاف الحميد، والاختلاف السائغ بين أهل الحق.
هكذا إذن بدت هذه الملاحظات العظيمة في خاتمته.
وقد كان هذا الكتاب بحق كتابا نادرا ومفيدا ويحتوي على الكثير مما تحتاجه الأمة فهو يحتاج لعلماء وباحثين يتذاكرونه بينهم يستخرجون منه الكنوز المخبأة فيه والتي أودعها فيه سماحة الشيخ.
وأقترح على وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم والأصلي بصفتها الوصية على المعهد العالي للدراسات والبحوث الاسلامية أن تقرره على طلاب الماستر شعبة المعاملات الاسلامية المعاصرة في السنتين يقرؤون جزأه الأول في الأولى، والثاني في الثانية، وبذلك تتكون لديهم ملكة وقدرة متميزة في فهم الفتوى والطرق التي ينبغي أن يسلكها من يريد الإفتاء.
أسأل الله أن يمد في عمر الشيخ العلامة عبد الله ولد بيه في طاعته ويحفظه من كل مكروه.