هناك مطالبات بالعلمنة فعلا.. لكن، للنظر إلى أصحابها؛ أولا: هؤلاء قلة قليلة جدا لكنها تتمتع بحضور إعلامي متميز على المنابر الاعلامية بكافة انواعها مما يخيل إلى غير العارف أنهم كثيرون.. ثانيا: غالبيتهم الساحقة هي شباب لم يتجاوزوا بداية الثلاثينات من أعمارهم.. كما ان معظمهم لم يكملوا دراستهم الجامعية (على الأقل الاجازة) ولم يقرأوا كثيرا عن فلسفة العلمانية والشروط التاريخية التي كانت وراء انتشارها في الغرب.
لدينا دول كثيرة غير علمانية حققت معدلات نمو وتنمية كبيرة بينما نجد العديد من الدول العلمانية لم تفلح في ذلك، لذلك لا يمكننا القول بالارتباط اللازم بين العلمانية والتقدم والنمو..
سأحاول أن أتحدث انطلاقا من معرفتي الشخصية بأغلبهم، يمكن تقسيمهم الى ثلاثة أنواع:
نوع لم يعرف عن العلمانية إلا أشياء سطحية يبثها الإعلام، أو كتابات تبسيطية سرعان ما تستنتج (وفق منطقها الواهم) أن حل المشاكل يكمن في العلمانية.. هؤلاء تستهويهم بالفعل الفكرة العلمانية وربما دافعوا عنها أكثر من غيرهم نتيجة جهلهم بحيثيات الموضوع..
النوع الثاني نجده مدفوعا للعلمانية لأنه يرى فيها إمكانية تحقيق رغباته (هؤلاء في العادة يعانون من تنشئة اجتماعية محبطة حيث نجدهم غير اجتماعيين، انطوائيون منذ الصغر، مما ينتج عنه أن يظلوا في فترة مراهقتهم بعيدين عن الأجواء الشبابية علاقات غرامية ناجحة قيادة شبابية تعويضية... الخ)، ينضاف إلى ذلك عامل البطالة التي يجعلها العديدون شماعة ينطلقون منها لتبرير دعوتهم للعلمانية إذ بمقدورها حسب رأيهم أن تنقذهم من براثن الفقر والاقصاء والتهميش..
النوع الآخر هو ذلك النوع الذي لم يتلقى في صغره تكوينا دينيا صحيحا، وإذا كان قد قرأ بعض النصوص فلم يتم تفسيرها له التفسير الصحيح وهؤلاء مشكلتهم أنهم لم يفهموا حقيقة العلمانية ولا حقيقة الدين فتراهم يقصرون أفهامهم على أن العلمانية هي الأداة الشاملة التي ينبغي أن يندرج تحتها كل شيء بما في ذلك الدين وهذا الطرح يتعارض مع حقيقة العقيدة الإسلامية.
المشكلة الحقيقية هي في النوع الأخير، وهو نوع لا يفرق بين مفاهيم متباعدة جدا مثل العلمانية والعلموية والحكامة السياسية الرشيدة، ومفاهيم أخرى توحي لأول نظرة على أن لها علاقة بالعلمانية في حين أنها مفاهيم كونية لدى البشر ويمكن الانطلاق منها نحو التقدم دون المرور بالعلمانية.
هناك نوع آخر يحدوه الوصول إلى الشهرة على منصات التواصل أو في الواقع هؤلاء تجدهم تارة علمانيين وتارة غير ذلك وتارة شيوعيين، ومن المهم جدا التذكير أن النوادي التي تجمع غالبية هؤلاء العلمانيين على اختلافهم أنها نواد يجدون فيها متنفسا لرغباتهم الجنسية وغيرها من الرغبات حيث يلتقي الكثيرون الذين يعانون من عدم التأقلم الاجتماعي وعدم تحصيل الفتوة بمعايير عصرهم..
من خلال الحلقات النقاشية التي أجريت مع العديد منهم اتضح لي أنه ليست لديهم فكرة واضحة عن العلمانية ولا عما يريدونها منها بالإضافة إلى أن غالبية هؤلاء ليسوا على دراية بخصوصيات المجتمع الموريتاني ليعرفوا إن كان بامكان العلمانية أن تتنزل فيه..
لا تحتاج موريتانيا إلى العلمانية، وحتى لو افترضنا جدلا أنه جاء نظام سياسي وأرغم المجتمع والدولة على الأخذ بالنظام العلماني فإنه لن يفلح بسبب طبيعة المجتمع نفسه المتجذرة حتى في لا وعيه وقوة حضور الدين في هذا اللاوعي وفي الحياة العامة والخاصة للأفراد..
لدينا نماذج مجتمعات كثيرة فرضت عليها العلمانية سياسيا ثم بعد فترت نجدها ترجع لطبيعتها الثقافية رافضة العلمانية والسبب هو أن هذه العلمانية لم تكن سيرورة ثقافية واجتماعية..
لا أعتقد أن الأمر ترف فكري بقدر ما هو سذاجة فكرية لأنه لا تتوافر أي مقومات لتبَنّي موريتانيا للعلمانية لا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا دينيا ولا ثقافيا ولا سياسيا..
لا يمكن تجزئة العلمانية، لا توجد علمانية بصيغ محلية تركية أو موريتانية أو سينغالية أو تونسية... الخ ذلك أن الفلسفة العلمانية نتاج فكري قام بتخطي الخصوصيات الثقافية لينتج العلمانية.. يمكن أن نسمي العلمانية المصطبغة محليا كما يروج لها البعض بأي اسم إلا اسم العلمانية..
ختاما، منذ عقود والدول العلمانية منفتحة على إدخال الدين بدرجات متفاوتة وإشراكه في الشأن العام للدولة ذلك لمعرفتهم أنه لا يمكن إقصاء الدين من الشأن العام لأن الدين هو ما به يتحرك الأفراد في تعاطيهم مع العالم وتتحرك به الجماعات الاجتماعية ويؤطر ديناميتها الحزبية والتعبوية.
انطلاقا من هذا يمكن القول إن الداعين إلى العلمانية في موريتانيا قد فاتتهم الصلاة، فليقضوا من فورهم، وفاتهم القطار فلينتظروا القطار الموالي..