رسالة إلى وزيري التعليم الأساسي والثانوي:
في أولى سابقة من نوعها في تاريخ اكتتابات قطاع التعليم في موريتانيا أعلنت وزارتا: التعليم الأساسي وإصلاح التهذيب، ووزارة التعليم الثانوي والتكوين التقني والمهني في بلاغ مشترك لهما مع وزارة التشغيل والشباب والرياضة عن تنظيم مسابقة لاكتتاب 3000 معلماً و2030 أستاذاً عن طريق الاختبار، وذلك في إطار التعاقد. ولعل اكتتابا بهذا العدد يفوق ربع العدد الإجمالي للمدرسين على المستوى الوطني من معلمين وأساتذة، والذين يقدر أعداد الأساتذة منهم ما بين: 5000 إلى 6000 أستاذ. تتحدث الأوساط التعليمية عن وجود 3000 منهم في الميدان وما يناهز 2000 منهم ما بين التسريح والإعارة وكذا الدمج والغياب المُبرر بالحيل... الأمر الذي يطرح عديد التساؤلات حول جدية هذا الاكتتاب أو بلاغ الحاجة وجدوائيته؟. ومدى شفافيته وأهميته في ظرف لا زالت تتزايد فيه المطالب متكررة بضرورة تحسين ظروف المدرسين وتوفير بيئة ملائمة لتعليم عصري؟.
ولا زالت فيه أيضا الحاجة ماسة إلى ضرورة توفير بنية تحتية مدرسية كفيلة بتأمين القدرة الاستيعابية في المجال التربوي، فضلاً عن جملة أمور أخرى إذا ما تضافرت مع إرادة حقيقية وجهود حكومية صادقة ستضفي لا محالة إلى مخرجات تعليمية تلبي تطلعات الرأي العام الوطني والأسرة التربوية (آباء للتلاميذ وأطرا للتعليم)، في تأمين مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
هذا إذا أخذ التوجه المُعلن لإصلاح التعليم من طرف النظام السياسي الجديد بعين الاعتبار ضرورة الإشراك الجاد لكافة نقابات التعليم الأساسي والثانوي في رسم سياسة الإصلاح تلك، مع ضرورة تنظيم محكم لمنتديات وطنية عامة لإصلاح التعليم. وكذا ورشات عمل جادة تبحث في كافة الاختلالات وعلى جميع مستويات ومراحل التعليم الأساسي والثانوي والعالي بما في ذلك التعليم التقني والفني، ومن ذلك أيضا العودة إلى سياسة التكوين المستمر للمدرسين ودورات التدريب التي هجرها القطاع منذ فترة. مع التطبيق الفعلي للقوانين وتفعيل آليات الرقابة والتفتيش، وكذا تطوير المناهج وتركيز العناية بالعنصر البشري كإعادة الاعتبار للمدرسين (أساتذة ومعلمين) من خلال تحسين أوضاعهم المادية المُزرية، وذلك بما يتلاءم مع ظروفهم الاجتماعية في ظل غلاء الأسعار وتدني الرواتب. وكذا الاستغلال السيئ للموارد البشرية وعدم التوازن في توزيعها وتوزيع المؤسسات (المدارس) ما بين المناطق من جهة، وفيما يتعلق بالأطر التربوية من جهة ثانية.
هذا بالإضافة إلى ضرورة حل مشكل الاكتظاظ في المؤسسات التعليمية الذي يؤثر بدوره على نوعية التعليم ومستوى استيعاب المعارف، حيث يُطرح هذا المُشكل بإلحاح في العديد من تلك المؤسسات التي تشكو من زيادة أعداد التلاميذ في الفصول الدراسة مقارنة مع النقص الحاصل في أعداد المدرسين الذي أحيانا ما يصاحب هذا المشكل، وخاصة أساتذة الشعب العلمية والرياضية؛ ومن ذلك مثلا وضعية ثانوية البنين رقم: 2 في ولاية نواكشوط الغربية التي فاق عدد التلاميذ المسجلين فيها للعام الدراسي الجاري: 2019/2020، في القسيمن: خامس علوم طبيعية (5D) والسادس رضيات (6D)، 93 تلميذا في الفصل الدراسي الواحد وهو ما يقتضي قسمة الفصل إلى مستويين، وهذا الأمر الذي يمنعه نقص الأساتذة ليبقى مشكل الاكتظاظ قائما على مستوى الإدارة الجهوية للتعليم بولاية نواكشوط الغربية، مع وجود حالات أخرى مماثلة في بعض مؤسسات التعليم الثانوي المختلفة، وذلك في ظل عدم التوازن في توزيع المدرسين بين تلك المؤسسات. وأيضا في الوقت الذي يلاحظ فيه زيادة المدرسين في المؤسسات التعليمية على مستوى باقي الولايات والإدارات الجهوية الأخرى مع تغطيتهم الكاملة لحاجيات تلك المؤسسات من الساعات الدراسية المقرر. هذا فضلا عن العجز الحاصل في توزيع النظام التربوي من حيث الإطار المؤسسي وعدم ملاءمة مخرجات التعليم الفني والعالي والتكوين المهني لحاجات السوق الحقيقية.
ولعل بلاغ الحاجة في اكتتاب 5030 مدرساً في إطار التعاقد لصالح وزارتي التعليم الأساسي والثانوي بالتعاون مع وزارة التشغيل والشباب والرياضة بهدف سد النقص الحاصل في المعلمين والأساتذة لخير دليل على مظاهر ضعف النظام التربوي الحالي، وكذا الاختلالات البنيوية التي تنخر جسم قطاع التعليم في البلد.
كان على وزيري التعليم الأساسي والثانوي بعد تقلدهما لمهامهما الجديدة وأدائهما لزيارات التفقد والاطلاع على المصالح الإدارية والتربوية التابعة لهما، أن يقومان بتشخيص جاد لواقع قطاعيهما مع جرد حقيقي لأعداد المدرسين في قطاع التعليم، وكذا تنظيم إحصاء شامل للمؤسسات والبنى التحتية المدرسية قصد رصد جاهزية تلك المؤسسات لاستيعاب التلاميذ خلال العام الدراسي الجديد 2019/ 2020. والوقوف على مكامن الخلل في النظام التربوي، إذا ما كان بالفعل توجههم المُعلن لإصلاح التعليم تنفيذا وتطبيقاً لإرادة فخامة رئيس الجمهورية طبقا لبرنامجه الانتخابي "تعهداتي"، ووفقا للمحور الرابع منه حول: "تثمين رأس المال البشري خدمة للتنمية المنسجمة". لا شك أن هذا التشخيص لو قيم به قبل إعلان بلاغ الحاجة، لكان كافيا للرد على مختلف التساؤلات المطروحة بشأن جدوائية هذا البلاغ ومدى أهميته في هذا الظرف بالذات؟. أو في سد النقص الحاصل في أطر التعليم من عدمه؟.
وكان على وزيري التعليم الأساسي والثانوي أيضا الرجوع إلى المقرر المشترك رقم: 917 الصادر بتاريخ: 19/12/2001 عن وزارة التهذيب الوطني ووزارة الداخلية والبريد والمواصلات، المُحدد لنظم ومعايير افتتاح المؤسسات المدرسية العمومية وتسييرها. ذلك أن التطبيق الفعلي للمعايير الواردة في هذا المقرر كفيل بتحديد حاجات القطاع من المدرسين وتقدير المؤسسات اللازمة لاستيعاب التلاميذ، وكذا التمكن من تقدير القدرة الاستيعابية في المجال التربوي. حيث تنص المادة: 19 من هذا المقرر ضمن الباب الأول على أنه: "يجب توفير الحد الكافي من المدرسين لتغطية حاجات المؤسسة من الساعات الدراسية وتتولى الإدارة المراقبة والمتابعة المنتظمة". هذا في حال ما إذا تم التخطيط لتلك الحاجات بعد الإحصاء الدقيق لأعداد المدرسين والمدارس وفق التشخيص المقترح لواقع قطاع التعليم في البلد.
فانطلاقاً من السقف العددي الذي يحدده القانون لأعداد التلاميذ في الفصول الدراسية سواء على المستوى الأساسي أو الثانوي يمكن الاستئناس بتقدير للحاجة بناء على العدد الذي لا يمكن تجاوزه على مستوى أي فصل من فصول الدراسة حسب الشروط والمعايير المحددة قانونيا، ودون اللجوء لوضعية الإكتظاظ في الفصول التي تسيء إلى المظهر العام للعديد من المؤسسات التعليمية الأساسية والثانوية في البلد. مع الالتزام أيضا بتحديد الفترة الزمنية اللازمة للمدرسين، كل على مستوى قطاعه وحسب سلكه الوظيفي، وكذا تحديد الاختصاص حسب نوعيته الذي انطلاقا منه يُحدد حجم المؤسسات حسب المعايير المعتمدة قانونياً، إن على مستوى الأطر التربوية أو على مستوى الساعات المحددة للعمل، أو على مستوى الطاقة الاستيعابية للمدارس.
فعلى سبيل المثال وفقا لترتيبات القانون رقم: 99/012 بتاريخ: 26 إبريل 1999 المتعلق بإصلاح النظام التربوي، وكذا المادة: 14 من المقرر: 917، يكون: "الحد الأدنى للسلك الأول (الإعدادي) هو 3 أقسام (قسم لكل مستوى) وتتطلب 4 إلى 5 مدرسين متعددي الاختصاص أحدهم للتأطير بالإضافة إلى حارس؛
- إعدادية من فصول تتطلب 8 إلى 9 أساتذة متعددي الاختصاص ومؤطر وحارس؛
- إعدادية من 9 فصول تتطلب 12 إلى 13 أستاذا ومؤطرين بالإضافة إلى حارس؛
- الحد الأعلى لإعدادية مكونة من 12 قسما تتطلب 16 إلى 17 مدرسا متعددي الاختصاص و4 مؤطرين إلى حارس.
بالنسبة للسلك الثاني (الثانوي) يتم وضع نسبة دنيا مكتملة بمعدل قسم لكل شعبة في كل مستوى (9 أقسام للمجموع) أي 270 ساعة من التدريس". واللافت للانتباه أن المادة السالفة ركزت في كل فقرة من فقراتها على حارس، والغائب عن الأذهان أن أغلب مؤسسات التعليم للأسف بلا حارس بل تفتقد في أغلب أحيانها إلى الأمن المدرسي الذي أصبحت الحاجة إليه ماسة في معظم المؤسسات التعليمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر مؤسسة الثانوية الإعدادية المشتركة (توجنين: 3 و8) بولاية نواكشوط الشمالية.
وعلى مستوى الساعات الدراسية جاء في المادة: 17 أنه: "تحدد الفترة الزمنية اللازمة للسلك كما يلي:
- السلك الأول: 30 ساعة كمتوسط لكل مستوى دراسي أي 90 ساعة لمجموع السلك.
- السلك الثاني: 30 ساعة كمتوسط لكل مستوى وكل شعبة أي 270 ساعة لمجموع السلك.
وتحدد المادة: 18 الفترة الزمنية لكل أستاذ وكل سلك، بحيث يؤدي أستاذ السلك الأول: 22 ساعة من التدريس أسبوعيا؛ ويؤدي أستاذ السلك الثاني: 18 ساعة.
أما على مستوى الطاقة الاستيعابية في المدارس والمؤسسات العمومية التعليمية الأساسية والثانوية، فقد جاء في المادة: 4 من الفصل الأول ضمن الباب الأول المتعلق بالتعليم الأساسي وتطوير المدارس، على أنه: "يجب أن لا يتجاوز تلاميذ الفصل 50 تلميذا، وسوف يتم العمل بحسب الإمكان ليصل المعدل إلى 50 في الوسط الريفي ويمكن لهذا المعدل أن يكون أقل من ذلك إلا أنه في الحالات لا يمكن أن يكون أقل من 20 تلميذا كحد أدني". وجاء في المادة: 5 أنه: "توفر المدارس السنوات الدراسية الست"؛ هذا وتحدد المادة المذكورة طريقة تنظيم تلك المدارس وتوزيع فصول الدراسة حسب المستويات ونسب التجمعات السكانية.
في حين نصت المادة: 13 من الفصل الأول ضمن الباب الثاني المحدد لمعايير التعليم الثانوي على أنه: "يتحدد عدد التلاميذ في الفصل وفق المعطيات التالية:
- عدد التلاميذ / الفصل في منطقة حضرية بالنسبة للسلك الأول: 50 تلميذ؛
- عدد التلاميذ / الفصل في منطقة حضرية بالنسبة للسلك الثاني: 45 تلميذ.
- عدد التلاميذ / الفصل في منطقة ريفية بالنسبة للسلك الأول: 45 كحد أعلى و40 تلميذا كحد أدنى؛
- عدد التلاميذ / الفصل في منطقة ريفية بالنسبة للسلك الثاني: 45 كحد أعلى و 30 كحد أدنى".
إذن كان على وزيري التعليم الأساسي والثانوي أن يأخذا بعين الاعتبار قبل إعلان بلاغ الحاجة ضرورة مراعاة الوضعية العامة للمنظومة التربوية، بما في ذلك ضرورة النظر في الوضعية المزرية للمدرسين (أساتذة ومعلمين) وتحسين ظروفهم بما يُعيد الاعتبار إلى مهنتهم النبيلة، وإليهم كأطر تربوية يقع عاتقها جزء هام من مسؤولية إصلاح التعليم المُعلن عنه وفق التوجه الجديد للنظام السياسي الحالي.
وكان الأوْلى أيضا من إعلان بلاغ الحاجة هذا، تسوية وضعية عقدوي قطاع التعليم البالغ عددهم: 4000. عن طريق دمجهم في القطاع أو تنظيم تقييم شامل لهم يجرون من خلاله اختبار قدرات ومهارات تعليم، يتم بعده انتقاء المتميزين منهم ودمجهم بشكل مباشر ورسمي في مؤسسات التعليم الوطني، وكذا إجراء تكوينات بهدف تحسين خبرات وقدرات المتبقين منهم في إطار دمج لاحق لهم بعد اكتسابهم مهارات تعليمية وتربوية جديدة وفقا لسياسة التكوين المستمر.
هذا ويبقى أي إصلاح تربوي جاد في البلاد يروم تطوير أداء قطاع التعليم وتحسين مخرجاته وملاءمتها مع حاجات السوق الحقيقية، والحاجيات العامة للتشغيل، رهين باعتماد سياسات مُحكمة وناجعة تجعل من آكد أولوياتها إعادة الاعتبار للمدرسين (أساتذة ومعلمين) أولا، وتسعى في خطوة ثانية إلى تشخيص جاد وحقيقي لواقع قطاع التعليم في البلد وتعزيز ذلك بخطوات أخرى إجرائية ملموسة تهدف لمراجعة المناهج الدراسية وتفعيل وتعزيز الترسانة القانونية للمنظومة التربوية بما يحقق المكاسب المرجوة ويضمن تعليما جمهوريا عصريا تتساوى فيه الفرص أمام جميع أطياف المجتمع دون تمييز ، ويُرسي دعائم مستقبل مشرق لأجيال الأمل الموعود.