في مسلسل الأيام العالمية لكل ما يخطر على البال – وما قد لا يخطر عليه - مر بنا اليومَ اليومُ العالمي للنوم (الثامن عشر من مارس) فذكرني بعلاقاتي مع هذا السلطان العزيز؛ وهي علاقات مضطربة كعلاقات بلادنا بمحيطها جنوبا وشمالا، وفي عهدها الممتاز نادرا ما يستغرقني لدرجة الاحتياج إلى تكرير النداء، أو عدم الاستيقاظ لأدنى طارئ، ولو رنة للهاتف أو صمت المذياع أو تغير ما يصدر عنه. منذ مراهقتي إلى اليوم عرفت مع النوم وصلا وصدودا ودلالا حسب عوامل مختلفة. وكثيرا ما أغار ممن ينام حيث شاء، وبمجرد وضع رأسه على الوساد، وأحرى من ينام جالسا أو على سفر (جوا أو برا). فلأحظى بالنوم أتصنع سكونا تاما وهدوءا طويلا يجري على ذاكرتي فيه شريط يومي بكل تفاصيله من استيقاظي حتى أخذ مضجعي، ولو أجبت سائلا أو حدث صوت في تلك الفترة لأفلت النوم مني حتى إشعار آخر. ويزيد تمنعا مني ودلالا علي كلما قل نصيبي منه أو طال عهدي به. وحتى عهد قريب كنت أركن إلى المطالعة والتأليف بعد نوم من حولي فأنجز ما أرمي إليه براحة وسهولة، وحين أصبحت من ذوي النظارات صارت تتعبني القراءة والكتابة على ضوء خافت، وليس من الظرافة استعمال الضوء الساطع لغير المنفرد. لكن النوم كان قد ألف عادتي فاستمر مجافيا لي في تلك المدة مع غياب شاغل فيها! في رمضان أعجز عن تحقيق الحد الصحي الأدنى للنوم؛ فكثيرا ما أنام بعد الثانية، فيوقظني المنبه في حدود الرابعة، فأبدأ في استنهاض من حولي للسحور، وبعده أجد صعوبة في العودة إلى النوم، وقد أغفي قليلا ثم أنهض للصلاة وأبدأ في شؤون يومي حتى أعود بعد العصر وقد اقترب الإفطار، ولات حين منام! يريحني نوم الظهيرة، لكني لم أعد أجد الوقت له إلا إذا كنت خارج العاصمة، وكان يكدره من يقيض الله لي ممن لا بأس عنده في إحداث حركة أو صوت حولي، أو حتى ندائي لأمر غير مستعجل في الغالب. حين يحدث ذلك أتأزم ولا يخفى امتعاضي، ومنهم يقول معاتبا ومتوعدا حين يرى حالي: "ما اتليت انواعيك إن شاء الله" فلا أرى في وعيده أكثر من أمنية أرجو الوفاء بها، لكنه سرعان ما يعود سيرته الأولى وكأنما يتقرب إلى الله بإزعاجي. ومنهم من يحاول الابتعاد عن تنغيص نومي فلا يزيد على تجنب اسمي مكتفيا برفع الصوت حولي أو لمس وسادتي أو المرور بقربي أو إيقاد المصباح، وكأنه يرى إذايتي قاصرة على اسمي! أعجب الآن من سفر لي بالبادية، وأنا في حدود العشرين من سنواتي (صيف 1983) دام ثلاثة أيام وليلتين، ثم زدت ليلة ويوما بعد عودتي دون أن أنام إلا حوالي ربع ساعة من يومي الثالث، لأسباب يطول شرحها، منها استغلال الوقت في السفر وعدم تأتي نومي في موضع لم أتعوده، وحين عدت إلى أهلي وجدت صديقين لي قدما من العاصمة في غيابي فنسيت كل شيء وأمضيت ليلة في محادثتهما ويوما في مجالستهما، وفي الليلة التالية نمت على مسافة من الخيمة فلم أستيقظ إلا وقريبة لي توقظني وتعصر الندى من جمتي (وكان طول شعر الرأس مستحسنا بين شباب تلك الحقبة) وقد كادت الشمس تطلع، فنهضت من نومة عميقة جاءت بعد أربعة أيام وثلاث ليال من هجر النوم. في فترة لاحقة اقتضت مهنتي أن أعمل ليلا، فعشت الحياة بالمقلوب! أنصرف إلى البيت صباحا لأنام والناس خارجون من بيوتهم بعد النوم، وأرقد إلى الظهر فتجري أمور في نومي أسمع عنها وكأنما حدثت في جوف الليل! كانت تجربة أدركت منها جانب مهما من قيمة نوم الليل، فعزفت عن أي عمل أو التزام يخرجني من البيت ليلا، غير مبال بالعناء والنصب طيلة النهار في سبيل ذلك. وانطلاقا من تجربتي كثيرا ما نصحت الشباب من قرابتي - ممن يساهرون الحواسيب - باستثمار الليل فيما تقتضيه الفطرة السوية والحكمة الإلهية {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}. صدق الله العظيم.