في تصريح جريء ومباغت، يطل علينا سعادة السفير الفرنسي في نواكشوط بمقترح مفاده، ومحصلته: "إن علينا أن نلعب ورقة التعدد اللغوي، بتطوير اللغة الفرنسية إلى جانب العربية، دون جعلهما في منافسة".
وكتمهيد لما سيتبع من تعليق، لم أتماك نفسي، حتي سطرته على عجل، ردا على هذه الدعوة الماكرة، التي تبطن من العداوة للغتنا المقدسة، ما لا يعلمه إلا الله؛ أود أن أُذكِّرَ، قبل كل شيء، أنه لولا الصوت المزعج لسيادته، ولأذيال "الفرانكو-جنونية" في بلادنا، كما سميتها في عديد من مقالاتي التي كتبت، بلغة فرنسية، بلغت من الرصانة، والإفحام، حدا يعجز عن الوصول إليه بنو جلدته؛ أقول، لولا ذلك الصوت المزعج، الذي عودتهم عليه، لما صدر عن سيادته هذا التصريح. وإني لَأَعِدُهُ بمقال ساخن، بلغته، يُلقِمه الحجرَ، بحول الله وقوته.
وكعجالة هنا، أحيله إلي ما قلت ، وكررت دائما في مقالاتي الكثيرة، والتي صارت معتادة لهم علي موقع "اكريدم"، وغيره، حتي صارت ملازمة لكل أنشطة أذيال الفرنكوفونية في بلادنا، أقول له، على غرار تلك الأفكار، والمعالجات:
1 / سعادة السفير، هذه البلاد ليست كغيرها من البلدان. فمن سوء حظ فرنسا، واللغة الفرنسية، أن موريتانيا، ليست أرضا صالحة للـ"فرنسة"، فهي معقل الضاد، ومنارته، ورباطه؛ وأهلها حاملو لوائه، بكل فخر، واقتدار، وجدارة، واعتزاز، وعنفوان، وشموخ. هذه أرض الأفذاذ، الذين حفظوا حضارة أمة بأكملها، بأدق تفاصيلها، وجزئياتها؛ بأنسابها، وأيامها، وأشعارها، وأراجيزها، وعاداتها، وطباعها؛ وخلَجاتها، وعشقها، وَدَلِّها، ودَلالِها، وغُنجها وصَبْوِها؛ وثُغاء شائها، وحنين نوقها، ودندنة منشديها، وسجْع حمامها، وإنشاد حُدَّائِها؛ فحافظوا علي ألق الضاد وزهوه، منذ أيام الانحطاط في المشرق، وحتي يومنا هذا.
2 / سعادة السفير، أنتم من جعلتم، وتجعلون من اللغة الفرنسية، أعدى عدو، وأشرس منافس، وأمقت منازل للغتنا في قعر دارنا. هل تعلم أن الكثير من الشباب الموريتاني محروم من العمل في وطنه، ومحروم من تقلد المناصب في بلده؛ ولا ذنب له، سوى أن شهاداته، الجامعية العليا، وكفاءاته التي لا تحصي، هي باللغة العربية؟ وحين يطرق باب الشغل، والتعيينات، والمناصب، يُقَدَّمُ عليه أحطُّ الناس مستوى، ومداركَ، لمجردِ أنه يلوكُ كٌلَيْماتٍ من الفرنسية؟
3 / سعادة السفير، أناشدك بـ "جان دارك"، و بـ "مندز افرانس" وبـ"بونابارت" و"ديجول" و"لكليرك"؛ وبـ"شاتوبرياه" و"ابيير كورني" و"فولتير" و"راسين" و"موليير" و"فيكتور هيجو"؛ أناشدك بكل هؤلاء، وغيرهم من عظماء فرنسا، وأدبائها، أناشدك، أناشدك، أن تعمل علي تطوير الألمانية، أو الصينية في بلدك. وهل يعقل توجيه هذا الطلب إليك، وأنت من بلادٍ يُجَرَّمُ فيها ارتكاب خطإ إملائي بسيط في محلات البيع؟ هل يعقل أن يُطلبَ منك تطوير اللغة الألمانية في فرنسا، وجعلها في نفس مستوى الفرنسية، وأنت من بلدٍ لا يُسْمَحُ فيه بالتلفظ، ولا حتى النَّبْسِ ببنتِ شفة واحدة من لغة "الباسك"، و"الفلاماه" و"الكورسكيين" و"البرتوه"، في البرلمان الفرنسي؟ مع أنها كلها، "لغات" فرنسية أصيلة.
4 / سعادة السفير، نحن في موريتانيا من يقرر ماذا علينا فعله، بخصوص لغة الانفتاح، واختيارها. صحيح أن حضارتنا العربية الإسلامية بحاجة اليوم إلى الأخذ من معارف الآخرين، في عصر التكنولوجيا، والحضارة المادية الطاغية. لكن ما الذي يلزمنا باعتماد الفرنسية، وما أدراك أنها أنسب من الانجليزية، مثلا، التي هي لغة العلم والتكنولوجيا الحديثة، وأنت أول من يعلم ذلك. فلا أحد منا اليوم، في موريتانيا، ينكر ضرورة ، بل واجب، تعلم وإتقان اللغات الحية، وفي مقدمتها الانجليزية؛ لكن ذلك لا ينبغي أن يكون، علي حساب اللغة العربية، ولست أنت من يحسم الأمر بالاختيار فيه. فبعد إتقان اللغة العربية أولا، يمكن للشاب الموريتاني أن يختار بكل حرية، بين ثلاث لغات أجنبية، قد تكون من بينها اللغة الفرنسية، كلغة ثانية، وثانوية. هذه هي الوضعية الصحيحة للفرنسية، والتي يجب أن تكون عليها في بلادنا. وهكذا العمل عندكم أنتم، في فرنسا، أليس كذلك، يا سعادة السفير؟ أم أنكم يحق لكم الحفاظ علي لغتكم وحمايتها، بينما لا يحق لنا ذلك؟
5 / سعادة السفير، لغتكم، والتي أشهدك أني أتقنتها منذ صغري، رغما عني، وفُرضت علي، بعد ذلك فرضا، بعد أن كبرت، كلغة عمل وتبادل يومي في المؤسسة، والمكتب، والصالونات؛ هي معضل الداء، وسبب المعاناة، ومصدر الألم، ومنتهي الإزعاج، وسبب التخلف، على بلادنا. فقد كان فرضها علينا، ونحن صغار، كارثة، ومضيعة للوقت. فكم أمضينا من وقت، ونحن في سن البراءة؛ براعمُ صغارٌ، تكلُّ أذهانُنا في "منطوق" عملية حسابية بسيطة، أو "مشكل تاجر اديولا" ؛ ولو أنها طرحت لنا باللغة العربية، لقمنا بحلها في نصف ثانية. فاللهَ أسأل، أن ينتقم من كل من لعب دورا في التمكين للغة الفرنسية في بلادنا، فقد ضيعت علينا السنين الطوال، وحرمتنا من النهوض العلمي. انظر إلي الشعوب العريقة، كاليابان، والصين، كيف نهضت بلغاتها، وضمنت كسب رهان الرقي، والنهوض العلمي؛ فلم تتمكن من ذلك إلا لتدريسها العلوم البحتة باللغة الأم.
6 / سعادة السفير، لغتكم فرقت مكونات شعبنا، ودقت بين الزنجي والعربي، إسفين التباين اللغوي، والثقافي، والمرجعي. ففي الوقت الذي كان فيه علماء "الفوتا"، ينشرون لغة الضاد ويحثون على تعلمها، ولا يعرف "الموريتاني" سواء في الجنوب أو في الشمال إلا الحرف العربي؛ طلعتم بلغتكم، وقمتم بنشرها، وأَوْهَمْتُم الكثير من السفهاء، أنها لغة الانعتاق والتقدم، ومَكَّنْتُمْ لهم، عبر أذيالكم في البلد، في المدارس، والطب، والإدارة، والأمن، والاتصالات، والصيد، والبنوك، والتأمين؛ حتى توهم الجميع أن اللغة الفرنسية لا غنى عنها. فاجتاح الحرف "الفرنجي" بلادنا، واختفى الحرف العربي أو كاد، في المدن الكبرى، وانزوي في المحاظر، والبوادي، والأرياف. حتي صرنا، في تخاطبنا اليومي، نتكلم بـ "خليط"، بغيض، ممجوج؛ فأصبحت لغة التخاطب "معكرة الصفاء"، كما قال شاعر النيل، حافظ إبراهيم، رحمه الله:
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى *** لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة *** مشكلة الألوان، مختلفـــــــــــــات
7 / سعادة السفير، لا تضيع الوقت بخصوص اللغة الفرنسية في بلادنا، فأنا أقسم لك، وبأغلظ الأيمان وآكدها، أن لا مستقبل لها البتة في هذه الربوع. أتدري لماذا؟ أنا أجيبك. وهنا أدعوك، سعادة السفير، إلي أن تكون أنت كذلك "براغماتيا" وتعترف بالواقع:
أ) نحن مقبلون، بحول الله، على استغلال ثروتنا من الغاز، والنفط، وغيره من مصادر الطاقة، المتعددة. وأنت تعلم، قبل غيرك، أن كبريات الشركات العالمية في مجال الطاقة، لا تعمل إلا بالإنجليزية. فما عسى أن تكون حاجتنا، وقتها، إلى لغتك؟ بالطبع، سيُقبِلُ الجميع علي تعلم لغة الحضارة المعاصرة، وهي الانجليزية.
بــ) لم يعد "الفلك" الفرانكفوني يحمل من عوامل الجذب إلا النزر القليل. فقد أصبح الشباب في بلادنا أكثر اهتماما بلغات أخرى، كالصينية، والإسبانية، والبرتغالية، والروسية، وحتى التركية. وهذه كلها لغات حية، أكثر بكثير من اللغة الفرنسية، وتنتشر فيها مراجع العلوم البحتة، التي طالما أوهمتمونا أنها لا تتقن إلا بالفرنسية.
جـ) حب الموريتانيين للغتهم، وتمسكهم الفطري بها، وغيرتهم عليها؛ كل ذلك، جعل اللغة العربية تستعيد مكانتها في موريتانيا الحديثة، وهو ما صار واضحا وجليا، من خلال عدد القنوات التلفزيونية، والصحف، والمواقع الاخبارية؛ وحتي التعاليق، والتحاليل الرياضية، الرصينة والمتخصصة، التي أوهمتمونا يوما، أنها لا تصح إلا بالفرنسية، وعبر "راديو افرانس". قارن كل ذلك في موريتانيا اليوم، وانظر إليه، إلى جانب ثلة قليلة من الـ"متثاقفين" بالفرنسية؛ وعدد قليل من المواقع، المرقونة بها؛ والتي يعد زوارها، ومتصفحوها علي رؤوس الأصابع، مقارنة بنظرائها باللغة العربية.
فلتتأكد سيدي السفير، أنك راجع بخفي حنين من هذه المعركة، وستندم ندامة الكسعي، إذا لم تبادر بتدارك لغتك والحفاظ عليها، في بقاع وأصقاع أخرى، وبلدان أخرى، ترطن فيها، أنت ومن لف لفك، حتى تَبَحَّ، وتنتفخ أوداجك. فهنا أرض المنارة والرباط، أرض محمد بن الطلبة اليعقوبي، والمختار بن بونه، ومحمد سالم بن عبد الودود، وعبد العزيز سي، وعبد الله با، والقاضي يورو كيدا. أرض لا تعرف إلا الضاد، ولا تحب إلا الضاد، ولا تريد إلا الضاد. وحسبك أني أستاذ لغة فرنسية، ومع ذلك، أصبح وأمسى، أكرر، وأردد، منشدا، مع شاعر النيل دائما:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومــي فاحتسبت حياتـــي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتــــــي
ولدت ولمـــــا لم أجد لعرائســي *** رجالا وأكفــاء وأدت بناتـــــي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتــي
وسعت كتـــاب الله لفظا وغاية *** ومـــا ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسمــــاء لمخترعــات
ولولا الأعراف الدبلوماسية، وما تستحقه علينا من حفاوة، وكرم ضيافة، وحسن معاملة، لقلت لك: امصص بظر اللات.. يا سفير فرنسا؛ فقد قالها يوما، في جو نزال ومعركة، من هو خير مني، لمن هو مثلك.