مأساة الأطفال الذين قضوا في حريق دار النعيم وحرقة حديث أمهم المكلومة أيقظت في نفسي ذكريات أليمة أسردها هنا على سبيل التعزية للأخت زينب بنت بلال والذكرى لمن يهمه الأمر.
منذ زهاء ستة وثلاثين عاما (وبالتحديد في سنة 1983) كنت مراهقا أدرس في إعدادية انواذيبو وأعيش في كنف أسرتي الفقيرة التي كانت تقطن في الأحياء الخشبية التي تطوق المدينة من الناحية الغربية بمحاذاة السكة الحديدية.. كان بيتنا من حطب وخردة (حديد) كبيت زينب وكما يظهر من الصور فإن الفرق الجوهري أنه توجد حول كوخها عمارة وبيوت من الإسمنت بينما كنا في غابة متشابكة من الحديد والخشب.. كانت أسلاك الكهرباء ممتدة عبر الأزقة الضيقة للحي القصديري وكنت أحد الكهربائيين المعتمدين في حينا المحاذي لسوق الغيران والذي سيعرف لاحقا بحي القمر الصناعي ويسمى اليوم بادراكاج فقد أرغمتني الظروف آنذاك على تعلم توصيل الأسلاك الكهربائية واعتدت إصلاحها حتى في الظلام لنا وللجيران أيضا.. أما عندما تنقطع الخدمة الكهربائية المؤقتة فلا مناص من استخدام المصابيح البترولية (اللمبات) أو الشموع التي كثيرا ما تسببت في حرائق فظيعة.. رغم انتشار الأسلاك الكهربائية وخطورة مدها عبر الأزقة الضيقة المبتلة غالبا فإنها لم تكن السبب الغالب في الحرائق التي كانت تندلع آنذاك بوتيرة أسبوعية بسبب كون أغلب ساكنة المدينة كانت تقطن في مساكن من ألواح الحطب ولأن من المألوف أن توقد النار في البيوت فلطالما فعلت الشرارة فعلها.
في إحدى الليالي استيقظت على حدث مفزع حقا فقد كانت ألسنة النيران تلتهم الكوخ من فوقنا ومن حولنا.. لست أدري كيف خرجنا سالمين، كما خرجت زينب، من الحفرة الملتهبة.. ما لا أنساه أنه عندما تمكن الرجال من إخماد النيران عن طريق تسوية ألواح الأكواخ بالأرض استخرجوا الجثة المتفحمة لشقيقتي الرضيعة "يحجب بوها" وأن أبي وشقيقي أصيبا بحروق بالغة وكانت الآلام النفسية أشد مضاضة عليَّ وعلى أفراد أسرتي الذين نجوا من الحروق..
في نفس الأوان اشتعل بيت تاجر جوال معروف كان يجوب أحياء المدينة مناديا بصوت جهوري: (اجديد.. الوركه المعلومه صاحب الراس.. اجديد) واحترقت بُنَيتُه الوحيدة التي قضت في حي الجديدة بينما كانت تُحضر الطعام في انتظار عودة أبيها المكافح من أجل تأمين ظروف حياة كريمة.. ورغم تقادم الزمن فقد تأثرتُ كثيرا لمأساة الرجل لدرجة أن عيناي اغرورقتا بمجرد استحضار خطبه بينما كنت بصدد كتابة هذه التدوينة.
لم نفقد أثاثا ولا أغراض ثمينة من متاع الحياة.. وكانت الدفاتر والكتب وأوراقنا المدنية من أعظم ما فقدناه.. ولكن سرعان ما تم تعويض ما التهمته النيران حيث قام زملائي في القسم الثالث مزدوج (3ème B 3) بنقل الدروس في دفاتر جديدة أما بخصوص الأوراق المدنية فقد جمعنا شتات ما تبقى منها وربطنا أوصاله ورغم حداثة سني آنذاك دخلت مكتب حاكم المقاطعة الذي تعاطف معي واستجاب دون تأخير بتوقيع مطابقة نسخ شهادات ميلادنا لأصولها المحترقة.. لم نحصل على قطعة أرضية من السلطات وإنما أعدنا تشييد أكواخنا بفضل مساعدة الخيرين وسرعان ما عادت الحياة إلى وتيرتها المعتادة.. رغم صعوبة الظروف المادية في حينا فقد كنا سعداء وكان الكثير من أبناء الحي الفقير متفوقين في الدراسة ومنهم من أصبح، فيما بعد، سفيرا ومنهم طبيب وفيهم مهندسون ومدراء وأساتذة عديدون..
وكما نجحت السلطات آنذاك في توفير التعليم للجميع بعدالة أتاحت لأبناء الفقراء أن يجلسوا إلى جنب زملائهم من أبناء الميسورين وأن يتفوقوا عليهم تمكنَتْ أيضا من تحسين ظروف سكن المواطنين وتأمينهم: فبعد سنوات قليلة وبينما نجح بعض أبناء الحي في شهادة البكالوريا وحصل العلميون منهم على منح من الدولة وسافروا للدراسة في الخارج وخولتني بكالوريا الآداب أن أدرس الحقوق في جامعة انواكشوط، قامت السلطات بترحيل ساكنة الحي إلى قطع أرضية جديدة وحدَّ تقسيم (النيمروات) من وتيرة اندلاع الحرائق.
صحيح أنه كان من الأنسب أن تقوم السلطات بتهيئة القطع السكنية وأن تمدها بخدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي قبل قسمتها على المواطنين.. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وكي لا أنسى الأخت زينب، التي دفعتني الرغبة في مواساتها لكتابة هذه التدوينة، فإني أسأل الله تعالى أن يعوضها خيرا وأشكره على ما عوضنا: فقد رزقنا الله بنتا ميمونة أنستنا فرحتها الفقيدة التي نحتسبها عند الله ونتوسل له تعالى أن يجمعنا بها في الجنة.. كما نسأله أن يتفضل على زينب ببنين وبنات وأن يبارك لها فيهم وأن يلهم سلطاتنا أمر رشد بتوفير متطلبات الحياة والدراسة للمواطنين دون تمييز بين الفقراء والأغنياء.. فثمة أشياء لا ينبغي أن تشترى.