لئن كانت الجهود التي تسعي إلى الرفع من مستوى أداء الشركات العاملة في هذا القطاع ملحوظة، إلا أن المزيد من العمل لا يزال مطلوبا. فالكفاءات الوطنية موجودة، لكن هل يبحث عنها؟ هل يعهد إليها بشيء، على الرغم من أن خصوصية هذا القطاع، التقني والمعرفي بامتياز، تفرض البحث عن هذه الكفاءات، والعهد إليها بالإصلاح الشامل للقطاع، بدل أن نظل في دوامة إسناد التأمين إلى غير أهله، من صحفيين، وهواة، وإداريين مدنيين؛ ومتشدقين بكليمات من الفرنسية، كمصطلحات، يلوكونها، دون فهم مضامينها ودلالاتها الحقيقية؛ كما لو كان التأمين قطاعا غير مهم، ولا تجدر العناية به. إن هذه الكارثة، كارثة تمادي الجهات الرسمية، والفاعلين الخصوصيين على حد السواء، في إسناد شؤون التأمين إلى غير الأكفاء، لن يفيد إلا في تعقيد المشهد، والإبطاء في إخراج هذا القطاع الحيوي من مرحلة الضعف والتسيب التي عاشها، طيلة فترة تولي الإشراف عليه من قبل وزارة التجارة.
واليوم، وبعد أن استبشر الجميع بإسناد الإشراف والوصاية علي القطاع، إلي وزارة المالية، فإن الآمال معقودة علي القيام بأول الخطوات وآكدها، ألا وهي البحث الجاد عن الكفاءات الوطنية، ليعهد إليها بإصلاح القطاع. فهذا هو المنطلق السليم والصحيح، والبداية الجدية في معالجة الاختلالات الكبيرة التي يعاني منها القطاع، والتي يتقن تشخيصها كل واحد منا، حيث لم تعد خافية، وهي مشاهدة ومعاشة في كل يوم.
إذا، لا بد في البداية، أن يتم إسناد الأمر إلى الأكفاء. بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، لا بد أن نشرع في إطلاق ورشات مستعجلة، لم تعد تتحمل التأخير في إطلاقها. وإذا علمنا أن الهدف الأسمى، والغرض الأكبر من إصلاح هذا القطاع الحيوي، يتمثل في حماية المواطنين، في أرواحهم وممتلكاتهم؛ أدركنا أهمية الإسراع في إطلاق تلك الورش والإصلاحات. فما هي إذا هذه الورشات ذات الأولوية، ولماذا هي دون غيرها، وما الذي يجعل منها أولوية؟
للإجابة على هذه الأسئلة التي لا تكفيها بالقطع سطور قليلة كهذه، لا بد أن نجمل القول، ونلتزم أشد ما يكون من الاختصار. وهكذا، يمكننا القول مجملا أن الأولويات، لإصلاح قطاع التأمين في بلادنا تكمن فيما يلي:
1. التركيز في الرقابة، وبكل صرامة، على مراقبة "الملاءة المالية" لشركات التأمين، بدل أن تنصب كل الجهود، وفي كل مرة، على مراقبة الالتزام بالتسعيرة الرسمية لتأمين المسؤولية المدنية لملاك السيارات، فقط. ونعني بالتحديد، الرقابة الصارمة على استخدام أقساط التأمين التي يتم إصدارها، أولا؛ ثانيا، التأكد من الوجود الفعلي للاحتياطات والمخصصات التالية:
أ) بالنسبة لتأمينات الأشخاص:
- الاحتياطي الحسابي،
- ومخصص المطالبات تحت التسديد؛
ب) بالنسبة لتأمينات الممتلكات والمسؤوليات :
- مخصص الأخطار السارية،
- ومخصص التعويضات تحت التسوية،
- ومخصص الحوادث التي وقعت ولم يبلغ عنها،
- ومخصص التقلبات العكسية؛
علي أن تكون كل هذه المخصصات، بالنسبة للنوعين، كافية لحماية حقوق حملة الوثائق.
2. الشروع فورا في الإعداد لأيام وطنية حول التأمين، يتم استدعاء جميع الكفاءات الوطنية، داخليا وخارجيا لحضورها، بعيدا عن كل تسييس، أو محاولة استغلال في أي منحي، أو من طرف أي جهة. وذلك لإصلاح قطاع التأمين والنهوض به إلى المقاسات والمعايير الدولية الواجب توافرها، واحترامها. حتى تتمكن بلادنا، ومواطنونا، من الاستفادة من هذه الصناعة المالية المزدهرة عالميا بشكل مذهل. علي أن يكون من أهم مخرجات هذه الأيام، تحديد آلية وطنية واضحة المعالم في التنظير والتنزيل، للتطبيق الحديث لمبدإ "العاقلة"؛ وهو المبدأ السامي الذي يقوم عليه نظام الدية والأروش، في الشريعة الإسلامية الغراء، والتي لن يطمئن الموريتانيون حتي يحس كل واحد منهم أن الصيغة الشرعية المعتمدة في بلادنا، تجعل من التأمين، في تطبيقه التكافلي، حلا شافيا لها. لذلك، يجب أن يكون حضور الفقهاء والأئمة، وأصحاب المنابر، والوعظ والتوجيه، والدعوة والإرشاد، بارزا في هذه الأيام الوطنية حول التأمين.
3. الشروع في تشكيل لجنة وطنية، من فقهاء القانون، والخبراء، والمحامين، والقضاة؛ وأخصائيي التأمين؛ للعكوف على صياغة مدونة جديدة للتأمين، وفقهاء مختصين في الاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة؛ تأخذ في عين الاعتبار المستجدات في الميدان، وتواكب علي وجه الخصوص، ظهور التأمين الإسلامي، التكافلي، في العالم وتطوره السريع، ومحاولات تطبيقه في بلادنا، من أجل التأطير القانوني الصارم، لهذا النوع الجديد والحساس من التأمينات. ومن أجل تجاوز النواقص الكثيرة التي تعاني منها مدونة التأمين الحالية. ولعل من أفدح تلك النواقص، كون ترجمة النص الأصلي، الذي صيغ باللغة الفرنسية، - وهو ما يخالف القانون - إلي اللغة العربية، اللغة الرسمية للبلاد؛ أقول، الأدهى، هو أن هذه الترجمة إلى اللغة العربية أتت ركيكة، غير مستوفية للمعني، في الغالب؛ حيث انشغل من عهد إليهم بها، - من غير أهل الاختصاص طبعا! - انشغلوا بالإشارة، في كل مرة، إلى كسر الميم، أو فتحها، في محاولة منهم إلى ضرورة التمييز بين اسم الفاعل، واسم المفعول من فعل أَمَّنَ. في جهل فاضح لحل بسيط معتمد في جميع أنحاء العالم العربي، يقضي باستعمال تعبير "المؤمن له" أو "المستأمِن" للتعبير عن المكتتب في عقد التأمين، وتخصيص صيغة اسم الفاعل (المؤمن)، للدلالة علي شركة التأمين. وهذه ليست إلا جزئية بسيطة، لكنه عندما يتعلق الأمر بصياغة نص قانوني بهذا الحجم، وبهذه الدرجة من الأهمية، تتحول كل الجزئيات إلى قضايا جوهرية. هذا إلي جانب ضرورة جمع كافة النصوص القانونية الأخرى، المتعلقة بالتأمين، من قوانين عضوية، ومراسيم، وقرارات، وحتي إجراءات تتنظيمية متفرقة، ومبعثرة؛ في مرجع واحد معتمد.
4. الشروع في استكمال المؤسسات المُهَيْكِلَةُ لقطاع التأمين، والتي ظل وجودها حبرا على ورق لحد الساعة، ألا وهي: المكتب الوطني للتعرفة، إنصافا لطالبي التأمين، في كل فروعه؛ والصندوق الوطني لضمان ضحايا حوادث المرور، حفاظا علي أرواح المواطنين، وضمانا لعدم ضياع حقوقهم، في كل الحالات التي يشملها نطاق تدخل هذا الصندوق؛ هذا إلى جانب تفعيل دور اللجنة الوطنية للتأمين، وإلزامها بالاجتماع في الآجال القانونية المحددة لانعقاد جلساتها سنويا، مع العمل علي نشر وتوزيع مداولاتها وقراراتها للعموم.
5. القيام، فورا بالجرد الشامل لجميع ملفات المطالبات المتعثرة، والعالقة، والتي أمام القضاء؛ لدى كل شركة من شركات التأمين، وإلزام كل شركة بالتصريح المطابق للواقع، عن كل ملفات المطالبات التي لم تتم تسويتها، بما فيها تلك التي هي قيد التسوية. وإنزال أشد العقوبة - التي قد تصل إلى حد سحب الترخيص، لم لا - بكل شركة تصرح بخلاف الواقع، أو تتعمد عدم التصريح، في الآجال المحددة لها، علي أن لا تزيد تلك الآجال، خلال عملية الجرد الانقاذية هذه، عن ثلاثة أشهر، علي الأكثر. وذلك حتى يُنصفَ المواطنون المتضررون، وتبرأَ ذمة كل شركة من الشائعات التي قد تنسب إليها، قصد المسّ بسمعتها، وحتى يكون الجميع علي بينة من الحجم الحقيقي لإسهام الشركات الوطنية للتأمين في دعم الاقتصاد الوطني، والتحسين من ظروف المواطنين، وزيادة الاحساس بالأمان لديهم، عن طريق التعويضات التي تقوم هذه الشركات بتسديديها. فالتعويض عن الأضرار التي تلحق بممتلكات المواطنين وأرواحهم، جراء الحوادث المشمولة في التغطيات، - ولعل التذكير هنا في غاية الأهمية -؛ هذا التعويض، يبقي هو الغرض الأساس من إنشاء شركات التأمين أصلا.
6. الشروع فورا في مركزة كافة المعلومات المتعلقة بحوادث المرور. وذلك بإنشاء هيئة مختصة، لذلك الغرض، تدعي "السجل الوطني لحوادث المرور". يكون مصدرا للمعطيات الإحصائية الدقيقة التي هي شرط في صناعة التأمين نفسه، والتي ستمكن، إن هي ضبطت من خلال هذا السجل، من فتح الباب أمام إمكانية الحصول علي "إفادة كشف بالحوادث"، الخاص بكل سيارة، حتي يتأتى تطبيق مبدأ التخفيف والتعسير في التسعرة، المفيدة في شق الضمانات الاختيارية من تأمين السيارات. وحتى يتمكن الجميع، من معرفة السائقين الأكثر حوادثا، في كل سنة. كما سيشكل هذا السجل الوطني لحوادث المرور المرجع المعتمد للقضاة، والمتقاضين، وكل الأطراف المعنية بالملفات المتنازع عليها في حوادث المرور. علي أن يكون الإعداد، والتحضير، والهيكلة، والإشراف؛ والتسيير والمتابعة لهذا السجل، في كل المراحل، مشتركا، بين وزارة النقل، وشرطة المرور، والدرك الوطني، ومؤسسات التأمين. كذلك، يجب أن يكون الاطلاع علي مضامين هذا السجل متاحا، عن طريق الإنترنت، لكافة المواطنين.
7. مركزة جميع بيانات ما يتم طبعه من شهادات التأمين علي السيارات، علي مستوي البنك المركزي، حتي تتأتى المتابعة الدقيقة لاستخداماتها من طرف شركات التأمين. فلا يسمح باستخدام أي شهادة تأمين، إلا إذا كانت تحمل – بالمطبوع - تأشيرة البنك المركزي الموريتاني. على أن يكون تحديد عدد ما تتم طباعته، من حيث الشكل، والعدد، والمضمون، متروكا بكل حرية إلي كل شركة، في حدود النصوص القانونية المنظمة. وهو الإجراء الذي سيمكن، ببساطة، من تجاوز الاشكالية التي أثارتها، ولا زالت تثيرها، الصيغة القانونية، لحيازة شركات خصوصية لمخالصات، تابعة للخزينة العامة للدولة؛ والتي من المفروض أن لا تكون بحوزة أي أحد، إلا من له صفة العامل أو الموظف التابع للخزينة العامة. كما أن التأشير علي إفادات التأمين من طرف البنك المركزي، سيمنح، في نهاية المطاف، إمكانية أكبر للتدقيق في التصاريح والبيانات المالية التي تصرح بها شركات التأمين، مقابل استخدام كل واحدة من تلك الافادات. وسيكون حينها، إنزال أشد العقوبات - في حدود القانون طبعا - بالشركات التي تتعمد التصريع فقط بالأقساط الضئيلة، وعدم الكشف عن تلك الكبيرة؛ سيكون الكشف عن هذا النوع من الممارسات، ممكنا وبسيطا، بمجرد القيام بتفتيش مروري روتيني، علي المؤمن له، والمقارنة بين البيانات المصرح بها، من طرف شركة التأمين عن استخدام الإفادة، وواقع المركبة.
8. الشروع في إنشاء مؤسسة وطنية لإعادة التأمين، والتي، وكما قلنا ذلك مرارا، لن تقتصر أهميتها في المساهمة على الإبقاء داخل الوطن، على بعض ما يتم تحويله من أقساط إلى الخارج فحسب، وإنما، وهذا الأهم، علي الأقل في مرحلة أولي من وجهة نظري الشخصية؛ ستمكن من خلق جهة متابعة وإشراف وتدقيق لما تنشره المؤسسات الوطنية من بيانات وإحصائيات، وأرقام. كما سيسهم إنشاء مؤسسة وطنية لإعادة التأمين، دون شك، في خلق وتكوين، فنيين وطنيين، في مجال حيوي كإعادة التأمين.
9. الشروع في إنشاء مدرسة وطنية للتأمين، فورا. تكون ثمرة تعاون بين القطاعين الخاص والعام. فالتكوين، الأصلي، والمستمر، في هذا المجال، البالغ التخصص، والدقة فنيا؛ يتطلب كفاءات وطنية عالية، يتم تكوينها في لغتنا الرسمية، اللغة العربية، وتُلزم في نفس الوقت بإتقان لغة التأمين العالمية، والتي هي الانجليزية، علي أن تكون أي لغة أخرى، كالفرنسية مثلا، لغة مساعدة فقط؛ وذلك، كي نضمن تخريج كفاءات وطنية، قادرة علي المنافسة، وتوطين المهنة، وترقيتها، والاضطلاع بأرقى المهام في قطاع التأمين.
10. العمل على تفعيل إلزامية التأمين على البضائع المستوردة، والاسراع في إلزامية التأمين ضد الحريق بالنسبة للمنازل، والمحلات التجارية، من حجم معين. ونلفت الانتباه هنا إلى أننا لا نعني تأمين المنزلية الشاملة، وإنما نعني التأمين على الحيطان، الذي يلزم به كل مالك منزل أو عمارة، مبني بالصلب، من الاسمنت والخراسانة، في وسط حضري. ويكفي للتأكيد علي أهمية هذا التأمين، ما سيشكله من دعم حقيقي، ومورد إضافي للقطاع نفسه؛ وما سيشكله كذلك من دعم للحماية المدنية، حيث يمكن، علي غرار ما هو معمول به في فرنسا مثلا، أن يتم تخصيص 30% من كل قسط مكتتب، إلي الحماية المدنية. وما أحوج الحماية المدنية في بلادنا إلى الدعم. ولعلنا نعود بتخصيص مقال، لكل موضوع من هذه المواضيع، البالغة الأهمية والإلحاح، علي حدة، بحول الله.