تستعد الجالية الموريتانية المقيمة في المملكة العربية السعودية هذه الأيام لاستقبال فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني؛ فمن المتوقع أن يلتقي سيادة الرئيس بأفراد يمثلون أعيان هذه الجالية في كل من المدينة المنورة ومكة المكرمة، وهذه الجالية من أكبر الجاليات الموريتانية المقيمة في الخارج إقامة دائمة، ومع قلتها – إذا قيست بالجاليات العربية والإسلامية المقيمة بالمملكة – فقد ظلت تقوم منذ أواخر الدولة العثمانية بمهمة كبيرة، تتمثل في السفارة الثقافية بين الحجاز وشنقيط، وقد نمت تلك السفارة وزادت بعد توحيد المملكة في عهد المغفور له الملك عبد العزيز طيب الله ثراه؛ فقد حظيت الجالية في العهد السعودي الميمون بعناية كبيرة من بناة الدولة السعودية الحديثة، فتبوأت منزلة عظيمة من نفوس المجتمع، أتاحت لها أن تنسج علاقات أخوية متميزة بين البلدين؛ وقد سجل التاريخ أفرادا وأسرا كانت لهم عند الحكومة والشعب السعوديين مكانة عالية: كآل ما يابا، وآل الشيباني، والشيخ محمد المجتبى، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي (آبه)، والشيخ محمد عبد الله ولد آدّه.
وما زال في هذه الجالية رجال لهم تأثير كبير، في الداخل والخارج، وآخرون يتولون مناصب مهمة، منهم مهندسون، وأطباء، وإداريون، ورجال أعمال، ومثقفون من الطراز الرفيع. ولولا أن هذه الجالية ظلت تحتفظ بطابعها البدوي لذابت في البيئة المحلية الجديدة التي فتحت لها الأذرع ووسعت لها الصدور غير أن بداوة المجتمع دفعت بكثير منه إلى السكن في أحياء محددة، فتربت أجيالها في بيئة مشابهة للبيئة الموريتانية، ولم يتأثروا كثيرا بالبيئة المحلية، حتى ليخيل إلى من يدخل أحياءهم أول مرة أنما هو في حي من أحياء نواكشوط القديمة.
وقد جدّت في حياة الجالية أمور، أثرت فيها تأثيرا بالغا، صارت مصدر قلق لها، كالرسوم الجديدة للإقامة وما استجدّ فيها مؤخرا من مقابل مالي تجاوز إمكانات الغالبية، فقد أصبحت هذه الأمور الشغل الشاغل لكل موريتاني مقيم على أديم هذه الأرض المباركة، غير أنه من غير المحتمل أن تُنقل هذه الآلام للسيد الرئيس لأسباب عدة منها: أنه يعرف تفاصيلها بدقة بحكم امتداده الاجتماعي داخل الجالية، ومنها ـ وهو الأهم ـ أنها سياسات محلية تنتهجها دولة ذاتُ سيادة ومن غير الوارد أن تكون محل نقاش من جهات خارجية مهما كانت علاقتها بتلك الدولة، ومنها أن الجميع يدرك أن هذه الآلام ما هي إلا أعراض خارجية لمشكلة حقيقية راسخة في عقلية المهاجر وثقافته، ومع ذلك سيتحاشاها الجميع كالعادة، وسيدار الحديث حول بعض العبارات الودية والمجاملات المعهودة، ولن يتطرق احدٌ لحاجات الجالية الأساسية، بل سيفضل الجميع عدم البوح بشيء من ذلك أو التطرق إليه..
ترى ما هي هذه الحاجات المسكوت عنها؟ وما مدى تأثيرها في الجالية والوطن بأكمله؟
تتصدر هذه الحاجات الصامتة حاجة المهاجرين إلى فهم التغيير الحاصل على مستوى الهجرة سواء على مستوى المفاهيم والإجراءات، إذ لم تعد الهجرة بمفهومها العام، وبغض النظر عن طبيعتها والأسباب التي أدت إليها، قابلة للاستمرار لما صار يحول دونها من أنظمة جديدة، ونظرة مختلفة للمهاجر وما يتغيّاه من وراء تلك الهجرة، وإذا كانت الهجرة الدينية تختلف عن الهجرة الدنيوية وتجعل فلسفة التضحيات فيها مفهومة ومقبولة، فإن الحدود بينها وبين الهجرات الأخرى أخذت تتقلص لصالح الهجرة الاقتصادية لما للاقتصاد من حضور قوي في تفاصيل الحياة اليومية، والمتأمل في الهجرات الحالية في العالم يجد أنها باتت محل نظر من كل الأطراف المشاركة فيها والمتأثرة بها ولاسيما هجرة الأجيال المتعددة التي تحمل ثقافات مختلفة وقيما مباينة لثقافات وقيم أوطانها الأصلية مما يجعل كل عودة غير مدروسة للمهاجرين إلى أوطانهم ستشكل أكبر ضرر للمهاجر نفسه، وللبيئة الاجتماعية التي سيحط بها رحاله، وللدولة الأم التي ستستقبل سفن العودة القادمة على عجل..
ترى ما الذي يجب فعله حِيال هذا الوضع؟
أحسب أن الحكومة الموريتانية بات من واجبها أن تفكر في الموضوع تفكيرا جادا، وألا تعول على عامل الزمن وحده في حَلّ هذه المعضلة، بل من الضروري أن تضع خطة لاستقطاب أفراد هذه الجالية خصوصا من الشباب ومتوسطي العمر، تأخذ بعين الاعتبار حاجة موريتانيا إلى أبنائها، والتحرك لأخذ زمام المبادرة في الوقت المناسب. ولا بد أن يدرك الجميع أن وجود هذا الكم الكبير من أفراد المجتمع خارج الحدود يؤثر في سيادة البلاد ويحد من قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية نابعة من مصالحها الوطنية الصرفة، فكل دولة لديها هذا الكم الكبير خارج حدودها ستفكر ألف مرة قبل كل موقف قد تقفه على المستوى الإقليمي أو الدولي مما يجعل سيادتها منقوصة واستقلال قرارها غير مكتمل.
ولكي تسير الأمور بسلاسة وبأقل خسارة يجب أن يكون العامل الاقتصادي حاضرا في كل تفاصيلها؛ ومن ذلك: أن تعمل الحكومة على توفير قطع أرضية قابلة للاستثمار تمنح لكل أسرة تقرر العودة إلى البلاد، ومنها كذلك أن يتم استقطاب الشباب في الجامعات بمنح داخلية وبشروط قَبولٍ ميسرة، وأن يتم استيعابهم في الجيش والأمن كذلك، ومنها أيضا أن تقدم الحكومة قروضا ميسرة لأرباب الأسر العائدة لإدارة مشاريع صغيرة في وطنهم تسدد على مدة طويلة. وليست هذه إلا نماذج من بين أخرى يفترض أنّ الحكومة أقدر على تصورها بحكم الخبرة والإحاطة.
وفي الختام أرجو لفخامة الرئيس مقاما سعيدا وزيارة موفقة لأرض العز ودوحة المجد والكرم...