كشفت إجراءات المكافحة المتباينة التي اتبعتها دول العالم في مجابهة وباء فيروس كرونا (Covid-19) للرأي العام الدولي والإقليمي ملاحظات عديدة تتعلق بمستوى وفائها بالتعاون الدولي فيما يتصل بالقضايا والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، والمساواة بين الشعوب في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وبكرامة الأفراد دون تمييز.
بل كشف وصول درجة انتشار المرض إلى مرحلة وباء عالمي، مفارقات غير متصورة حول مدى استعدادالأنظمة الصحية في الدول المتقدمة التي كان نصيبها من الإصابات الأكبر بأضعاف مقارنة مع نظيراتها من الدول النامية. على الرغم من توفر أنظمة الإنذار المبكر ومراكز البحوث والمعامل الأكثر تطورا حول العالم.
وهو ما يدفعنا لطرح تساؤلات بشأن جدية الدول في الوفاء بالتزاماتها بتنفيذ واحترام وحماية الحق في الصحة، الذي يُعد واحدا من حقوق الإنسان الأساسية المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي اعتمدته الجمعية العام للأمم المتحدة في 1966، ودخل حيز النفاذ في العام 1976م، وصادقت عليه 170 دولة حتى حينه.
أي مضت أكثر من أربعين عاما من تعهد الدول الأطراف بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى في الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه.
وحسب المادة 12 من العهد، فقد أقرت الدول الأطراف بأن ضمان ممارسة التمتع التام بهذا الحق يفرض عليها العمل على الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها، مع مراعاة أن تكون هناك استعدادات جيدة لتأمين الخدمة والعناية الطبية للجميع في حالة المرض، بما في ذلك الاهتمام بتحسين جميع جوانب صحة البيئة المحيطة من حولنا.
وكما هو معلوم فإن تنفيذ الحق في الصحة يكون بالتدرج باعتباره أحد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يتطلب تنفيذها توفر موارد مالية كافية، تفوق في كثير من الأحيان إمكانية الدولة، خاصة إذا كانت من ضمن الدول النامية، شريطة أن تبذل الدولة المعنية أقصى ما يمكن من مواردها المحلية للوفاء بالتزاماتهافي مجالات الصحة حتى تستحق الدعم الدولي من هيئات الأمم المتحدة المتخصصة كالصحة العالمية أو الدول المانحة.
وما يدعم ذات المبدأ القائم على أن الإنسان هو محور التنمية وأن احترام الدول لحقوقه وحرياته هو المعيار الأساس لقياس مدى تحضر الدول وتقدمها، حيث لا يكفي القول بأن الحق في الصحة هو فقط الحق في التمتع بصحة جيدة، إنما يشمل الحصول على مياه الشرب النظيفة، والغذاء الصحي والكافي والآمن، والحصول على التوعية والمعلومات الصحية، والظروف الصحية في مكان العمل، مع مراعاة توفر تكافؤ الفرص بين الأفراد في الوصول والاستفادة من النظام المحلي للحماية الصحية، بما في ذلك حقوق وحريات أساسية أخرى منها حق في سلامته النفسية والجسدية بأن يكون في مأمن من التعذيب، أو إجراء التجارب الطبية عليه دون إذنه.
هل تعد القيود المفروضة انتهاكا لحقوق الإنسان؟
وفقا لما تقدم فإن دول العالم ينبغي عليها أن تتضامن فيما بينها، لأجل التغلب على هشاشة النظم الصحية العالمية بتقديم المساعدة لها في العديد من الدول حول العالم وأن توازن كذلك بين جهودها في مكافحة وباء كرونا واحترام وحماية حقوق الإنسان وحرياته العامة، من خلال التحمل المشترك لما يتوقع أن تتعرض له الحكومات وشركات القطاعين العام والخاص من خسائر ناجمة عن إجراءات الحجر الصحي وتقييد ممارسة معظم الحقوق الأساسية ما قد يؤدي إلى ركود اقتصادي طويل الأمد، حيث لم يزل الوقت مبكرا لحساب نسبه وتأثيره.
ومن أبرز الحقوق التي تتأثر بشكل مباشر في هذه الظروف:
- الحق في الصحة، بأن تضمن الدول أن يكون هذه الحق متوفرا وجيدا،مع إمكانية الوصول إليه بمايشمل الحق في العلاج من الأوبئة، وتقديم المساعدات الإنسانية والتكنولوجية المتصلة بنظم رصد ومراقبة الأوبئة والتحصين منها وطرق معالجتها.
- عدم التمييز: بأن تضمن الدول تمتع جميع الأفراد بالحق في الصحة دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.
- الحق في التنقل، بما يمكن الأفراد والجماعات من التواصل مع بعض البعض والعودة إلى أوطانهم، وممارستهم نشاطاتهم.
- الحق في العمل، بما يشمل توفير البيئة الصحية السليمة، والأجر الذي يكفل لهم عيشا كريماً.
- الحق في الغذاء
- الحق في حرية الرأي والتعبير، بما يشمله من طلب المعلومات الصحيحة، والاطلاع عليها، ونشرها بما يحقق معرفة الجمهور بما يدور حوله.
وحتى تنجح الدول في تحقيق نتائج ملموسة في مكافحة هذا الوباء وغيره من الأوبئة، فإن عليها واجب إشراك الأفراد والجماعات من سكانها ووضعهم في كامل صورة مراحل اتخاذ القرارات المتعلقة بالصحة وتطبقها واحترامها، حيث اتضح من التجارب الإيجابية عند التزام الأفراد انخفاض معدلات الإصابة بينما في حالات ضعف التزام الأفراد تصاعدت حدة الإصابة وأعداد الضحايا.
حالات الطوارئ تجيز قانونية تقييد بعض الحقوق:
يجيز القانون الدولي لحقوق الإنسان تقييد ممارسة بعض الحقوق الأساسية، وذلك في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تُهدد أمن وسلامة الأمة، كما ورد في المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وقد وضعت شروطا غير يسيرة لإعلان حالة الطوارئ تسمحللأنظمة بفرض حالة الطوارئ في أضيق الحدود مع تحديد مدتها وإخطار الدول عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة بها، بما يضمن تحققالمساواة وعدم التمييز في تطبيقها على جميع السكان.وتستثنى حقوقا أساسية بعينها من التقييد حتى في إعلان حالة الطوارئ وهي:
- الحق في الحياة حيث لا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا
- عدم جواز إخضاع أحد للتعذيبولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.
- معايير المحاكمة العادلة.
- حظر الاسترقاق بكافة أشكاله، بما في ذلك عدم جواز إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامي.
- عدم جواز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي.
- عدم رجعية القوانين عن الأفعال التي لم تكن مجرمة وقت ارتكابها.
- حق كل إنسان في الاعتراف بالشخصية القانونية.
- الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، بحيث لا يجوز إخضاع هذا الحق إلا لقيود ضرورية وقانونية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
وقد أضاف انتشار وباء كورنا (Covid-19)، حقوقا أخرى يمكن وضعها تحت طائلة التقييد بغرض تحقيق السلامة العامة والصحة العامة، ومنها الحق في التنقل، والحق في العمل.
والتدابير المتعلقة بالتقييد فسرتها دول عديدة حول العالم في القرارات التي تابعها الجمهور عبر الإعلام.
مظاهر سلبية وإيجابية في مجابهة كرونا:
هناك ملاحظات عديدة غطت المشهد التفاعلي في التعاطي مع تصاعد انتشار الوباء والجهود المبذولة لمجابهته على المستويين الدولي والمحلي، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي.
أما الإيجابي فقد تبدى في حالة من الشعور الإنساني والحس الإنساني الجمعي المشترك بأن جميع الأفراد حول العالم متساوون في الحقوق والواجبات سواء كانوا أثرياء أو فقراء، نجوماً أوأشخاصا عاديين، كلهم يواجهون تهديدا مشتركا لعدوى تنتقل بالمصافحة، أو بلمس الأسطح، أو عبر رزاز المصابين، الأمر جعل الطائرات والقطارات، وقاعات المؤتمرات ودور السينما والملاعب الرياضية، وحتى دور العبادة كلها أماكن لا بد من تجنبها. أصبح الجميع ودون سابق إنذار في حاجة ماسة لاتباع ذات الإرشادات ودون استثناء.
ومن الإيجابيات أيضا عودة وسائل الإعلام والصحافة الاحترافية ومنصاتها الرقمية لصدارة المشهد واختطاف انتباه ومتابعة الجمهور للتطورات العالمية والمحلية المتعلقة بانتشار الوباء من مصادر تلتزم الدقة والمصداقية والموضوعية ولها القدرة على الوصول إلى المعلومات الرسمية واستنطاق المسؤولين، حيث لا يمضي يوم إلا ومئات المؤتمرات والنشرات والتصريحات والملخصات تملأ الفضاءات العامة، في ظل كثافةانتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة التي أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي الفردية منبرا لها.
ومنها أيضا اجتماع الأسر لساعات وأيام ليكتشف فيها الوالدان قصص أبنائهم ونشاطاتهم في المنزل، وما تقوم به الزوجة من أدوار لم تكن منظورة للزوج.
أما المظاهر السلبية فيمكن فقط تناول مثالين منها:
فقط كشف الوباء حالة ضعف استجابة النظم الصحية والارتفاع غير المتوقع في نسبة الإصابات في دول عديدة حول العالم منها أمريكا وإيطاليا وإسبانيا، وعدم اكتراث بعض الدول بإقامة نظام صحي مناسب لسكانها وحالتهم الاقتصادية.
ومن عجب نفاد الاحتياجات الطبية الأولية مثل (الكمامات)، التي أضحت عملة نادرة حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد نشر بعض الأطباء العاملين في أقسام الطوارئ والمستشفيات فيديوهات تناشد الحكومة والمنظمات والمانحين بضرورة توفيرها لهم، وللمرضى والمشتبهين.
خطاب الكراهية بسبب المرض:
كذلك ظهر جليا خطاب الكراهية الصادر عن المسؤولين والسياسيين الذين لم يتوانوا في توجيه خطاب تمييزي للدول التي انتشر فيها الوباء، ومن ذلك تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تحدث علنا عن الوباء الصيني، كأن الفيروس الذي عبر كل دول العالم صيني الجنسية.
ولم تقف بعض دول العالم الثالث مكتوفة الأيدي عن فضح فشلها في تحقيق الكرامة لشعوبها، حتى تداول الناشطون فيديوهات لمسؤولين يؤكدون وينفون الإصابات بين مواطنيهم دون دليل.
ولأن مكافحة انتشار هذا الوباء والسيطرة العاجلة عليه فيها مصلحة للجميع فإن كل فرد ومنظمة ودولة يتقاسمون واجبات ومسؤوليات كل حسب إسهامه.
وكانت الفكاهة حاضرة عندما ضجت وسائط التواصل بالتدخلات السافرة للأزواج وهم في الحجر المنزلي في شؤون الطبخ مما عرض بعضهم لمخاطر الطرد والـتأنيب.
ختاما:
فقد نادت السيدة ميشل باشليه، المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بضرورة أن تحتّل كرامة الإنسان وحقوقه الأولويّة في هذه الجهود المبذولة لمكافحة فيروس كورونا COVID-19 ، لا أن نتركها لمرحلة لاحقة".
وأضافت "ويجب دائمًا أن يتمّ تنفيذ عمليات الإغلاق والحجر الصحي وغيرها من التدابير الأخرى المخصّصة لاحتواء ومكافحة انتشار فيروس كورونا، بما يتماشى تمامًا مع معايير حقوق الإنسان، ووفقًا للضرورة وبطريقة متناسبة مع المخاطر التي يتم تقييمها"