صحيح أن وزراة التنمية الريفية كغيرها من القطاعات العمومية دقت ناقوس الخطر في هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها بلادنا والعالم من حولنا واستشعرت حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها لتوفير ما أمكن من المنتجات الزراعية المحلية في هذه الظرفية وبدأت البحث في كل السبل للمحافظة على المنتجات الحالية وتسهيل الحصول عليها بالإضافة إلى زراعة ما أمكن من المحاصيل على طول السنة رغم المناخ الحار والجاف ووعورة أماكن الانتاج؛ وقبل ذلك أطلقت برنامجا خاصا لنفض الغبار عن الزراعة المطرية، كلها أمور مشجعة بيد أن "فيروس كورونا" الذي أوقف الرحلات وأغلق الحدود وفرض حظر التجول وأوقف التدريس وقلص الدوام الرسمي وفرض الحجر الصحي على مئات ملايين البشر وباختصار كاد أن يشل حركة العالم هو فرصة حقيقية أكثر من أي وقت مضى لتسليط الضوء على الغذاء في المستقبل؛ كيف سيكون مصدره؟ وما هي أهم الخطط لتوفيره؟ ومن جديد تبرز الزراعة بوصفها المصدر الأول لتوفير الغذاء لمئات ملايين البشر بشقيها النباتي والحيواني كالحل الوحيد لتوفير حاجيات الناس من الغذاء والكساء والدواء..
ولأن بلادنا مترامية الأطراف وذات طبيعة صحراوية ومناخ جاف كان القطاع العمومي المتمثل بوزارة التنمية الريفية يكاد يكون الهيكل المنظم الوحيد المهتم بهذا القطاع وتطويره وتنميته في مختلف المناطق تساعده مبادرات استثمارية في القطاع الخاص على ضفة نهر السينغال تهتم أكثر بالزراعة المروية وخاصة محصول الأرز.
إلا أن الظروف الحالية تحتم على الدولة بشكل عام وقطاع التنمية الريفية بشكل خاص التفكير بنهج جديد يؤمن الاكتفاء الذاتي في ظرف زمني محدد وبكمية إنتاج محددة في المواد الرئيسية (الأرز؛ القمح؛ الذرة البيضاء والصفراء وبقية المحاصيل التقليدية بالإضافة إلى أهم أصناف الخضراوات الرئيسية والفواكه ما أمكن ومحاصيل الأعلاف ومادة التمور الهامة والأساسية لسكان مناطق الواحات بالإضافة إلى الأغذية ذات المصدر الحيواني وخاصة الحليب ومشتقاته واللحم بكافة أنواعه).
ولن يتأتى ذلك إلا بحصر الموارد المتاحة وتسييرها تسييرا معقلنا والتعديل في أولويات المشاريع المختلفة لمواءمة الظرفية في دعم الإنتاج الزراعي المباشر وتوفير كافة الوسائل اللوجستية لعمال وفنيي قطاع التنمية الريفية وانخراط كل العقول والخبراء في مجال الزراعة بشكل شفاف لوضع خطة غير تقليدية لخروج القطاع من الرتابة والإنتاج المعتاد ونفض الغبار عن عوامل النجاح كاستصلاح الأراضي ذات القابلية والاستثمار الناجع في مشاريع الري واقتناء البذور الجيدة وادخال المكننة الزراعية وتوفير الري التكميلي في الزراعة بالمناطق المطرية وخلق مزارعين جدد عمادهم يتمثل أساسا في خريجي الجامعات والمعاهد ومتقاعدي الجيش؛ وتمويل مئات مشاريع الخضراوات للنساء معيلات الأسر والشباب العاطلين عن العمل في مختلف مناطق البلاد.
إن الزراعة اليوم لم تعد مجرد خيار بل أصبحت ضرورة لتوفير الاكتفاء الذاتي لشعبنا وإن كنا في السابق نعتمد بشكل كبير على السوق العالمية في غذائنا فهزة "كورونا" يجب أن توقظنا من سباتنا العميق؛ ومن يعتقد أن العالم بعد "كورونا" سيكون كما قبلها فهو مخطئ خاصة في مجال استيراد وتصدير الغذاء بل من المتوقع أن نشهد صعوبة في استيراد المواد الغذائية وخاصة الحبوب في ظل انكماش اقتصادي عالمي متوقع..
كل ذلك يحتم علينا الإسراع في وضع خطة لا تخضع للروتين الإداري المعقد أو بيروقراطية القطاع العام بل خطة استعجالية فنية عمادها الأرقام لا مجال فيها للتهاون أو التكاسل أو التربح أو استغلال الظرفية؛ واتباع نهج الشفافية والمتابعة والاعتماد على النفس ومكافحة الفساد والمسلكيات الرديئة التي تعودنا عليها في القطاع العام كالمجاملة على حساب الحقيقة والتسييس وتزيف الواقع والكذب على الوزراء في الأرقام لنيل رضاهم والتقرب منهم بالقيل والقال ومحاربة اختلاس قوت المزارعين الفقراء الذين يقضون أغلب يومهم تحت أشعة شمس ساطعة؛ فتلك أمور لم يعد لها مكان في بلادنا في ظل الانفتاح والرغبة الصادقة في التطور والأهم في هذه الظرفية تلتي تعتمد فيها الشعوب على أوطانهم ومقدرات بلدانهم ونزاهة وتضحيات أبنائهم.
إننا في لحظات غير تقليدية وما خلفته أزمة "كورونا" يجب أن يكون لنا ملهما لإخراج ما في أنفسنا من طاقة إيجابية والمسؤولية الملقاة على أطر وعمال قطاع التنمية الريفية مضاعفة فلنختر إلى أي الفريقين سيفرزنا التاريخ.