ورد في تفسير المرائي لابن سيرين (ت 110هـ، 729م) أن امرأة رأت في منامها أن رجال حيها أتوها تباعا فهالها ذلك وكان يدفعها دفعا لسؤال ابن سيرين عن تأويله ولكن الحياء يغلب عليها فتلف استفسارها في ذلك الكابوس الذي يضيق صدرها ويقض مضجعها.. وبينما هي على تلك الحال رأت أن تلقن رؤياها لجارية لها فأمرتها بادّعاء الرؤيا وسؤال شيخ المؤلين. فلما جاءته الجارية وذكرت ما "رأت" قال لها: كذبت! ما رأيت ذلك بل رأته سيدتك. أخبريها أنها ستحفر بئرا يستقي منها أهل الحي.
وفي سنة 1953 أنشأ الراهب الإنجليزي أدورد فرح منظمة غير ربحية سماها "السامريين" (Samaritans) وهي فريق من الموظفين المدربين مهمتهم الاستماع لمن يعانون من مشاكل من أي نوع والتحدث معهم وإيناسهم، وخاصة المقبلين على الانتحار. إنها خطوط هاتفية مفتوحة 24 ساعة تستمع وتقدم المشورة والنصيحة دون طرح أي سؤال قد يحرج المتصل. وهذه المنظمة هي الأولى من نوعها في العالم.
ومع انتشار الأنترنت والهواتف المتنقلة وخدمة الرسائل القصيرة (تسعينات اقرن الماضي)، انتشرت العيادات النفسية والخدمات الاستشارية المشابهة على المنصات الافتراضية. فهذه شركة أسترالية واحدة تصل إحصاءاتها 150 ألف رسالة نصية وخمسة ملايين ثانية من الاستشارت.
ما هو المشترك بين الشذرات المدونة أعلاه؟ إنها مشكلة الإفصاح والصراحة والصدق مع الذات ومع مقدم الخدمة (الطبيب أو الاستشاري مثلا). إنه الصراع المستمر بين الرغبات والنزوات الكامنة في النفس والراغبة أبدا في الظهور والتحقق وبين رقابة الضمير الذي يكبح ما يعتبره غير "لائق". أو قل الصراع بين ما يسميه علم النفس الكلاسيكي "الهو" و "الأنا العليا".
وفي هذا العصر الرقمي الذي نعيش اليوم، وفرت منصات التواصل فضاء سياحيا غير مسبوق للـ"هو" تسبح فيه وتمرح بعيدا عن أي رقيب لا من ضمير الفرد ولا الضمير الجمعي للبيئة الثقافية الحاضنة.. وقد نشأ عن انتشار هذه المنصات ما بات يعرف بالحياة المزدوجة. ويقصد بها أن للفرد شخصيتين: شخصية يعامل بها الناس في المكتب والبيت والشارع (الواقع) وشخصية أخرى يتعامل بها مع عوالم أوسع من خلال منصة ألكترونية، هي الشخصية الافتراضية. وفي حالات الإدمان على الفضاء الرقمي ربما انقلبت الموازين عند بعض متصوفة فيسبوك مثلا فيكون الإنترنت هو واقعهم وأنا وأنت والشارع والسيارة عالمهم الافتراضي!
ونظرا لهذا الانتشار الواسع للعالم الافتراضي وتأثيره القوي والمتزايد على عالم الواقع، وخاصة في البلاد العربية، فقد أصبح من الملح أن تهتم المؤسسات الأكاديمية بدراسة الظاهرة الافتراضية وتوجيهها والاستفادة منها في خدمة المجتمع وتنميته. وقد حصل شيء من هذا في بعض البلدان الغربية ومازال قيد الدراسة والتطوير.
فهناك ما يسمى "طب الواقع الافتراضي" (Virtual Reality Medicine) ومن أبرز تطبيقاته ما يعرف بالعلاج بالتعريض (Exposure Therapy) ومن أمثلته معالجة الخوف حيث يوضع المريض في واقع افتراضي يتوهم فيه مواجهة المخوف. ثم بشيء من التدريب والتدرج يخف الخوف حتى إذا نزل عن مستوى معين أمكن تعريض المريض للمخوف الحقيقي وقياس التحسن حتى يتلاشى الخوف تماما.
وفي العالم العربي، نحن أحوج إلى تطوير علوم إنسانية افتراضية تمكننا من فهم أنفسنا بشكل أفضل. وقد جمعتني مؤخرا جلسة ثقافية مع الصديق العزيز والمفكر الجريء د عبد الله البريدي ناقشنا فيها هذا الموضوع وأهميته ولعل إحدى جامعاتنا تحوز قصب السبق فتفتح شعبا في علم النفس الافتراضي وعلم الاجتماع الافتراضي و.... الافتراضي!
والطريف أنه في صباح اليوم التالي سمعت في مذياع السيارة قصة شاب يشكو ازدواجية المعاملة التي يتلقاها من أبيه فقد حاوره على فيسبوك باسم مستعار في مسألة معينة فرد عليه ردودا اعتبرها الشاب مطمئنة وفرح بها ثم سأله نفس الأسئلة بعد ذلك في المنزل فجاءت ردوده مناقضة لما قال على فيسبوك ونائيا بنفسه عن "خرابيط المتغربين".
أما آن الأوان لفتح أقسام العلوم الإنسانية الافتراضية؟