...ذات مساء ربيعي من أواخر نيسان / ابريل عام 1720، رست سفينة القديس أنطوان الكبير، داخل ميناء مدينة مارسيليا، المزهوة وقتها برخائها الاقتصادي ورواج تجارتها، كانت السفينة القادمة من الشرق البعيد، تغص بحمولة ثقيلة وثمينة من الأقمشة الدمشقية الأصيلة، ينام بين ثناياها وباء الطاعون الغاشم، الذي سيلتهم ببطء، تلك المدينة المسكينة، الغارقة في ملذاتها ونزواتها،
لم يكن لتلك السفينة أن تدخل ميناء مرسيليا أبدا، إذ وهي في طريقها إلى المدينة، مات ستة من بحارتها وتاجر تركي وطبيب كانا على متنها، ماتوا جميعهم بالطاعون، لكن عمدة المدينة الذي كان يملك الجزء الأكبر من حمولة تلك السفينة، زور شهادات صحية، تفيد بأن هؤلاء جميعا، إنما ماتوا بسوء التغذية، قام العمدة بفعلته الشنيعة تلك، حتى لا يفوت فرصة بيع بضاعته في معرض النسيج، الذي سيقام في المدينة،
سيقتل الطاعون نصف سكان مرسيليا دون رحمة، وستتكدس مئات الجثث في الأحياء القريبة من الميناء وتتحلل تحت وطأة شمس شهر آب / أغسطس الحارقة، وتنشر رائحة الموت في كل أرجاء المدينة المكلومة، وما يزال الجرح غائرا في جسد مرسيليا إلى يومنا هذا،
في كل مرة، كانت فيها الأوبئة والجوائح تدك أسوار المدن وتقتحم بواباتها، لم تكن تفتك بالبشر فحسب، بل كانت تعري سوءاتهم ومثالبهم وتفضح طمأنينتهم البلهاء، من دمشق إلى ميلانو، مرورا بالقسطنطينية ولندن وأثينا ومدن صينية غاصة بالمحتضرين الصامتين، ثلاثون طاعونا كلفت البشرية مائة مليون قتيل، ولكنها فوق ذلك، خلفت وراءها أكواما من القصص الشنيعة والمريعة،
في روايته الشهيرة "الطاعون"، لم تكن غاية الصحفي والروائي الفرنسي الرائع ألبير كامي، أن يحدثنا عن ذلك الوباء الفتاك الذي حل بمدينته، ولا عن يوميات "وهران"، مدينة لا توجد بها أشجار، يباع الربيع فيها داخل الأسواق، سلالا من الزهور، يجلبها باعة صغار، يأتون من البلدات المجاورة،
إن ما أراد كامي أن يرويه لنا وبتفاصيل مملة جدا، هو تلك الثقة الإنسانية البليدة، التي تدفع البشر للاطمئنان واليقين بأن كل الأمور تحت السيطرة وبأن كل شيء يسير على ما يرام وبإتقان شديد، وكيف سيحطمها الطاعون في غفلة من جميع سكان المدينة، ويحولها إلى رماد تذروه الرياح في الشوارع والأزقة والساحات الخاوية على عروشها، وذلك لعمري، هو ديدن كل الأوبئة والجوائح، منذ الأزل،
...كورونا فعل بنا ما هو أشد وأمر، الفضيحة كانت مجلجلة، أضحى الجلوس في البيوت بين النساء والولدان، بطولة وطنية لا يضاهيها شيء آخر في هذه الدنيا الواسعة، أصبحت سيادة الدول، تقاس بمخزونها الاستراتيجي من الكمامات والمناديل الورقية، وبات السائل الكحولي الهلامي، ثروة قومية نادرة، تحرسها جحافل الجيوش، خشية لصوص متربصين،
مثل جهاز هائل لكشف الكذب، فضح كورونا افتراءاتنا وحماقاتنا، عرى ثقتنا الجوفاء ومرغ كبرياءنا الزائفة، الدول أصبحت تسرق بعضها!، عملاق صناعة السيارات الأمريكي جنرال موتورز تحول إلى مصنع للكمامات! وشركة بوينغ قد تتحول هي الأخرى إلى مصنع لورق الحمام، كل شيء بات ممكنا، في زمن مسكون بالكوابيس والأشباح!
كورونا فضح نظامنا الصحي، فضح إنسانيتنا أيضا، سكان "القرية الصغيرة"، كما كان يحلو لنا أن نصف بتبجح شديد عالمنا، أغلق كل واحد منهم بيته على نفسه ولم يحفل بما يحصل للآخرين من حوله، كورونا فضح تقدمنا التكنولوجي والعلمي، فما سيرويه لك أكبر أساتذة الطب عن الوباء في نشرات أخبار المساء، هو ذاته ما سمعته من جارك العجوز، دون زيادة ولا نقصان، حين ألقيت عليه التحية هذا الصباح،
أمل العالم بأسره في الشفاء من الوباء، بات معلقا بعقار عتيق، عمره تجاوز الستين عاما، سبق وأن تم وصفه لمليار من البشر، يدعى الكلوروكين، بحسب مزاعم بروفسور فرنسي سبعيني، طويل القامة نحيل الجسم، يشبه عازف غيتار في فرقة غنائية، من خمسينيات القرن الماضي،
...من بين كل زعماء العالم، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أفضل من تحدث عن الجائحة، سياسي ولد في لحظة تأفف وتذمر عارم في بلاده، جاء وحزبه من اللا مكان، مشيا على الأقدام، يقول عنه الفرنسيون، إنه يضع قدما في اليسار وأخرى في اليمين، لكن ماكرون حين يخطب في شعبه، يتحول إلى ديغولي مخلص للغاية، لدرجة أنه يكاد يتفوق أحيانا، على آخر الديغوليين الشرفاء، الراحل جاك شيراك،
في خرجته الثانية حول الوباء، قال الرجل مخاطبا مواطنيه: "أنا على ثقة تامة بأننا سننتصر غدا على هذا الوباء، لكنني أيضا على نفس الدرجة من الثقة، بأنه حين يأتي ذلك الغد، فإنه لن يكون أبدا مثل أمسنا"،
ما أراد ماكرون أن يقوله للفرنسيين وللعالم باسره، هو أن أمسنا، تحول إلى هشيم من الآهات والحسرات والزفرات، تذروها رياح أماسي الشتاء الأخيرة الباردة، في شوارع باريس وروما ومدريد ولندن وبرلين وفي خليج نيويورك، على مرأى من تمثال الحرية، الذي يعيش أحلك أيامه،
كان ماركس يقول عن ملهمه وغريمه هيغل، إنه وجده يمشي على رأسه فجعله يمشي على قدميه، كورونا أيضا، وجد نظامنا العالمي يمشي تارة على رأسه وتارة أخرى مكبا على وجهه، فهل سيجعله يتخلى عن عاداته البهلوانية البائسة تلك، ويمشي سويا على صراط مستقيم؟
أو بعبارة أخرى أكثر وقاحة، هل يعيد كورونا شيئا من الإنسانية إلى حياتنا؟