بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على النبي الكريم , وعلى آله وأصحابه وأمته آمين , وبعد:
فقد طلب مني أحد الإخوة الفضلاء بعد الجمعة الثانية من شهر شعبان , أول عام من العقد الخامس من المائة الخامسة بعد الألف من هجرة الحبيب المجتبى صلوات الله وسلامه عليه أن أنظر له ما تيسر من المتون والشروح للتأكد من عدم إجزاء الجمعة في الظرف الحالي في هذا البلد , وهو أمر قد أفتي به مجموعة من علماء البلد .
وإني بعد الاستعانة بالله تعلى وتوخي الخير أود قبل كل شيء أن أعترف لأوصياء الله تعلى في أرضه على مصالح المسلمين بالشرف والقدر الكبير الذيْن منِحوهما , كإخضاع الله تعلى رقابَ عباده لطاعتهم , وكإيجابه إسداءَ النصح لهم , وكندبه إلى الدعاء لهم بالتسديد والتوفيق , لكنه لشرف المهمة غلظ الخطاب عليهم في طلب الذب عن دينه وإصلاح رعيتهم , كما أود أن يتذكروا أن التأدب مع الله تعلى سر التمكين في الأرض , وأن دعائم الإسلام لا تحركها العواصف التاريخية العابرة , وأن صدر هذه الأمة بلغ غايته بالتقلل من الدنيا , والعزيمة على الرشد , وإيثار رضى الله عز وجل , وأن ما ثبت شأنه بيقين لا يؤثر سلبا فيه متطرق الاحتمال , للقاعدة المتفق عليها : ( لا يرفع اليقين بالشك) .
ثم إن استفسار هذا الأخ لا يمكن بلالُ رحمِه منفصلا عن ذكر سببه , لذلك أقتصر إن شاء الله تعلى على ما تدعو إليه حاجة البيان من أطراف السبب :
فمن المعروف أن صلاة الجمعة لا خلاف في وجوبها أصلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها , ومعروف أيضا أن شأن الفرد فيما يسقط ذلك الوجوب ليس كشأن الأمة أو إقليم أو بلد منها , ألا ترى أن شخصا تخلف عن صلاة العيد مثلا لغير عذر لا يقال إنه آثم لأنه لا إثم إلا في فعل محرم أو ترك واحب , لكن إذا ترك أهل بلد أو مصر شعيرة صلاة العيد مثلا أو شعيرة الأذان فعلى ولي الأمر أن يحملهم على فعل ذلك المتروك ولو قسرا , لأنه بالنظر إلى كليته واجب لا مندوب , قال في مراقي السعود :
مَا كَانَ بِالْجُزْئِيِّ نَدْبُهُ عُلِمْ
ججج
فَهُوَ بِالْكُلِّي كَعِيدٍ مُنْحَتِمْ
وهذا في حق المندوب بالجزئي , فكيف في حق الواجب بالجزئي , قال الله تعلى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) , والفقرة الأخيرة من الآية كما أنها كلمة ترغيب فهي أيضا كلمة ترهيب , وقد روى مسلم في الصحيح من طريق عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره : "لينتهين أقوام عن ودْعهم الجمعاتِ أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُن من الغافلين " , وقد علم الناس في هذا القطر أول جمعة من شعبان المذكور أنه نظرا لأوضاع صحية متطورة في العالم وتهدد البلد قد تقرر إلغاء الجمعة مؤقتا على امتداد التراب الوطني نزولا عند رغبة عدد كبير من الأئمة .
وأئمةُ المساجد يكفيهم شرفا أن يكونوا أهلا لأن يطلق عليهم اسم جماعة المسلين , لكن هذه محل اعتبار نظرها في الأمور العامة عند فقد الحاكم , أما عند وجوده فكلمة الفصل الاجتهادي له لا لغيره , وقبل الجمعة الموالية علم الناس أيضا من قبَل مجلس الإفتاء بالبلد رؤيتَه لصوابية الإلغاء المتقدم , مع عدم إجزاء الجمعة إذا صليت , مستندين إلى الأوضاع الصحية المتقدمة الذكر من جهة الطب , ومن جهة الشرع إلى نصوص عامة , أكثرها خصوصية وأحزُّها في مفصل الاستدلال حديث : "لا يورد ممرض على مصح" , ونصّان من مختصر الشيخ خليل , أما الحديث فلا يخفى أن المنهي عن الإيراد فيه هو الممرض وليس المصح , ومع ذلك فهو من مختلف الحديث الذي أمكن الجمع فيه مع مقابله , فقد قال الحافظ العراقي في ألفيته - وقد سبقه لذلك ابن الصلاح في مقدمته , وقد ملأت شهرة الرجلين والكتابين بقاع الإسلام- :
وَالْمَتْنُ إِنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ
كَمَتْنِ: لَا يُورِدْ , مَعْ لَا عَدْوَى
ججج
وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا تَنَافُـرُ
فَالنَّفْيُ لِلطَّبْعِ , وَفِرَّ عَدْوَا
وقال الحافظ في فتح المغيث : وإن قوله : "لا يورد ممرض على مصح ", "وفـرَّ من المجذوم" , بيان لما يخلقه الله من الأسباب عند المخالطة للمريض , وقد يتخلف ذلك عن سببه , وهذا مذهب أهل السنة , كما أن النار لا تحرق بطبعها , ولا الطعام يشبع بطبعه , ولا الماء يروي بطبعه , وإنما هي أسباب والقدر من وراء ذلك , وقد وجدنا من خالط المصاب بالأمراض التي اشتهرت بالإعداء ولم يتأثر بذلك , ووجدنا من احترز عن ذلك الاحترازَ الممكن وأخِذ بذلك المرض اهــ. وقد قال الله تعلى : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) , وأما نصَّا صاحب المختصر فأولهما : قوله في أول باب الجمعة : واستؤذن إمام ووجبت إن منع وأمنوا اهــ. قال الزرقاني وسلم البناني : استؤذن ندبا في ابتداء إقامتها اهــ. والدليل على أن المراد ابتداء إقامتها , لا بعد انعقادها قول خليل نفسِه في آخر فقرة من باب الجمعة : أو شهودِ عيد وإن أذن الإمام اهــ. والمقصود أنه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم فلا تغنى إحدى الصلاتين عن الأخرى , قال في جواهر الإكليل : وإن أذن لهم الإمام في التخلف عن الجمعة والجماعة , إ ذ لا حق له فيه , إنما هو حق لله وحده اهــ. وقد أفاد المواق عند نص الاستئذان المتقدم نقلا عن مالك أنه قال : لله فروض في أرضه لا يسقطها , ولِيَها إمام أو لم يَـلِها , منها الجمعة اهــ. ومن ذكر التفريق في الإجزاء بين منع الإمام منها جورا ومنعه منها اجتهادا فنحن نستعيذ بالله تعلى أن نصف الحاكم بالجور , لكننا أيضا لا نحرجه باجتهاد قد يكون تورعَ عنه , والقاعدة الفقهية المعروفة تقول : (لا ينسب لساكت قول) , وأما نص المختصر الثاني فهو قوله : وعذر تركها والجماعةِ : شدة وحل ومطر وجذام , ومرض وتمريض ...إلخ اهــ. وهي أعذار لتخلف الأفراد , وليست أعذارا لخلو المسجد عن الجمعة , ولا عن الجماعة كلاَّ , والدليل على ذلك قول أصحاب الشروح : إن الجذام لا يبيح التخلف لصاحبه إلا إذا اشتدت رائحته حتى آذت المصلين , وإن اشتدت ووجد رحبة أو موضعا من الطرق تصح فيه الجمعة بحيث يمكنه القيام ثَم وحده لم تسقط عنه الجمعة . ولا أقصد هنا أنّ أمر السلطة بالتحرز وأخذ الحيطة لا يلزم الاعتناء به , بل كل توصية طبية سلطويةٍ معتمدة على خبرة وأمانة يجب على الرعية الأخذ بها , لكن في ضوء جواب إمام الأئمة مالك رحمه الله لمن سأله عمن نادته أمه وأبوه في وقت واحد كيف يفعل؟ , فأجابه بما يقتضي أن يطيع أحدَهما , ولا يعصيَ الآخر . وإذا كان هذا هو الحلَّ عند تزاحم جهتي استحقاق مخلوقتين فما هو الحل عند تزاحم نداء مخلوق مع نداء الخالق؟, (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) , وقبل الختام فإني أدعو الله تعلى أن لا يُحوج المسلمين إلى جمعة البيوت ولا إلى جماعتها , فإنه لم يبلغنا أن النبي صلى الله تعلى عليه وآله وسلم قال ذلك , ولا أنه فعله , وفق الله الجميع للصواب , وجعلنا أمة ملتحمة ممتثلة , لا وباء فيها ولا خصاصة , تشكر على السراء وتصبر على الضراء , الحمد لله رب العالمين , أستغفر الله العظيم , اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله .