الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
لا بأس - قبل الدخول في الموضوع - بالتذكير بملاحظات أراها مهمة لتجلية الموضوع:
أولى هذه الملاحظات: أن الموضوع يتعلق بنازلة معاصرة، طرحها انفكاك قيمة الفضة/ الورق عن قيمة الذهب، بعد أن كانت قيمة الفضة تعادل 10 في المائة مقارنة مع الذهب - أو تقاربها - على مر العصور.
قبل أن تفرق بينهما عوامل اقتصادية وتسويقية ونقدية، أهمها:
- الندرة
- ومجالات الاستخدام (اختلاف الغرض)
- فضلا عن قوة الذهب القيمية في التماسك وضعف الفضة في مواجهة منافسة قوية واجهتهما من قبل معادن نفيسة مستجدة مثل الألماس وغيره.
وثانية هذه الملاحظات: أن المسألة مسألة خلاف مستقر بين الفقهاء المعاصرين:
- حيث رأى البعض أن التقدير بالفضة أولى (هيئة كبار العلماء السعودية، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي)
- بينما ذهب عامة الفقهاء المعاصرين إلى أن اعتبارها بالذهب أولى (د. يوسف القرضاوي، د. وهبه الزحيلي، الشيخ محمد الحسن الددو، د. محمد الأشقر... ) وغيرهم.
وثالثة هذه الملاحظات: أن علاقة العملات بكل من الذهب والفضة تختلف عن علاقة عروض التجارة بكل منهما، ذلك أن عروض التجارة لها منافع ذاتية وعلاقتها بالعين علاقة تبعية مطلقة ضرورة. أما العملات الحديثة، فعلاقتها بالأصلين (أقول الأصلين!) الذهب والفضة، علاقة إلحاق وظيفي، لأنه لا منفعة ذاتية فيها، وإنما لأنها اليوم قيم المتلفات وأرش الجنايات وأثمان البياعات (حتى دون الذهب والفضة، واقعا)
وبعد هذه الملاحظات السريعة، أدلف إلى الحديث عن الموضوع في محاور أربعة:
1- أصالة الذهب إلى جانب الفضة
2- وقفة مع الأحظ للفقير
3- العملات ألصق بالذهب
4- و قيمة الذهب اليوم أقرب إلى الأنصبة المستقرة لبعدها عن التضخم.
فأقول:
1. أصالة الذهب إلى جانب الفضة: ليس الذهب فرعا مقيسا على الفضة وإنما هو أصل قائم بذاته للأدلة التالية:
- ما ثبت في سنن ابن ماجه (كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابٌ : زَكَاةُ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ)
عن َعَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا.
والحديث صحيح
- عن علي بن أبي طالب: ليس في أقَلَّ مِن عِشرينَ دينارًا شَيءٌ، وفي عِشرينَ نِصفُ دينارٍ.
القسطلاني ( هـ)، إرشاد الساري ٣/٣٩ • إسناده صحيح أو حسن
وهوقريب من لفظ أورده
السفاريني الحنبلي في كشف اللثام ٣/٤١٣ • وإسناده صحيح •
- عن عبدالله بن عمر وعائشة:] أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَأخذُ من كلِّ عشرينَ دينارًا فصاعدًا نصفَ دينارٍ ومن الأربعينَ دينارًا دينارًا
الألباني (١٤٢٠ هـ)، إرواء الغليل ٣/٢٨٩ • للحديث شواهد يتقوى بها
- عن محمد بن عبدالرحمن: أنَّ في كتابِ رسولِ اللهِ ﷺ وفي كتابِ عمرَ في الصدقةِ أنَّ الذهبَ لا يُؤخذُ منهُ شيٌء حتى يبلغَ عشرينَ دينارًا فإذا بلغَ عشرينَ دينارًا ففيهِ نصفُ دينارٍ والوَرِقُ لا يُؤخذُ منهُ شيٌء حتى يبلغَ مائتيْ درهمٍ فإذا بلغَ مئتيْ درهمٍ ففيها خمسةُ دراهمَ
الألباني (١٤٢٠ هـ)، إرواء الغليل ٣/٢٩٠ • إسناده صحيح مرسل لكنه في حكم المسند
- أن عامة الفقهاء يعتبرون نصاب الذهب عشرين دينارا (أصالة) بغير التفات إلى قيمته من الورق (وعليه المذاهب الأربعة) إلا ما حكي (حكي فقط!) عن عطاء وطاووس والزهري... (انظر المغني المجلد 12 الصفحات: 6، 7، 19، 20.
مع أن المحكي عن هؤلاء ليس فرعية الذهب عن الفضة واعتباره مقيسا عليها فيما اطلعت عليه.
- أصالة الذهب في الديات والجنايات عموما.
- أن القول بأن الذهب مجرد فرع مقيس على الفضة يلزم منه القول بأن نصاب الذهب اليوم حوالي 5 دنانير وليس عشرين دينارا!
هذا مع الإشارة إلى أنني لا أنازع في صحة حديث الورق المؤصل لها وأعتبرها أصلا في نفسها إلى جانب الذهب.
2. وقفة مع الأحظ للفقير:
مع الإقرار بأن قاعدة المزكين ستتسع اتساعا عدديا عند تقدير الزكاة من العملات بالفضة (تقديرها بالفضة يجعل النصاب هذه الأيام حوالي 181 ألف أوقية قديمة، مقابل تقديرها بالذهب الذي يقارب 1513000 أوقية قديمة) فإنه لن يكون أحظ للفقير إذا أخذنا بالقول إنها لا تدفع لمن يملك نصابا!
انظر الحطاب عند قول خليل 'ومالك نصاب' 3/105 وغيره من الشراح.
إضافة إلى بعد مالك النصاب بتقدير الورق (181 ألف أوقية قديمة) عن حقيقة الغنى التي أناط بها الشارع إعطاءها (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)
كما أن استقرار المعاملات وعمليتها أولى من التعلق بملاحظة الأحظ للفقير، علما بأن الشارع رتب أمور الزكاة على العدالة بين طرفي المعادلة (وإياك وكرائم أموالهم) ويمكن النظر في الشراح عند قول خليل: 'ولزم الوسط ولو انفرد الخيار أو الشرار'
فملاحظة الأحظ للفقير لوحدها لا تقوى على الوقوف أمام الحقائق الاقتصادية والوقائع النقدية التي لا تناقض الشرع، مع ملاحظة أنها لا تصفو لهذا الطرف كما بينا. مع الإقرار بأنها أقوى الحجج المذكورة في هذا الجانب، ما يجعل إمكانية عمل الإنسان بها في خاصة نفسه ورعا لا يمكن الإفتاء به.
ذلك.. ولننتبه إلى أن حرمة أموال المسلمين والحذر من أن نوجب عليهم من الصدقات ما ليس بواجب عليهم (لملاحظة الأحظ للفقير) ليس أقل شأنا من الحذر من أن نسقط عنهم زكاة قد وجبت عليهم بالفعل!
3. العملات المعاصرة ألصق بالذهب:
أجل! إن علاقة العملات المعاصرة ألصق بالذهب لأن غطاءها في الغالب إنما هو بالذهب (مقابل الأغلب هنا ليس الفضة/ الورق) فأشبه أن ترجع إليه لا لأصل غير مرتبطة به.
4. تقدير النصاب بقيمة الذهب اليوم أقرب إلى قيمة الأنصبة الأخرى - التي هي أبعد نسبيا عن عوامل التضخم - منها بالفضة/ الورق (خمسة من الإبل أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم) في وقت لا تكاد تكفي فيه قيمة مائتي درهم لشراء رأس واحد من وسط الإبل. مثلا. (ينظر فقه الزكاة للشيخ القرضاوي 1/264)
علما بأن 20 دينارا من الذهب كانت تكفي - أيام الوحي - لشراء 20 شاة من غنم الحجاز، وهي اليوم قريبة من ذلك. وكذلك كانت مائتا درهم من الورق وهي اليوم لا تكاد تكفي لشراء شاة واحدة. (محمد الأشقر/ أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة:1/30)
هذا ويمكن الاستئناس لاعتبار التوازن بين الأنصبة فقها، بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيبا فقال: 'ألا إن الإبل قد غلت' قال فقوم - في الديات - على أهل الذهب الف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا... (المغني: 12/7)
والخلاصة: أن المسألة نازلة مستجدة والخلاف فيها قائم، وأن عامة الفقهاء المعاصرين من ذوي الاختصاص متفقون على أرجحية اعتبار نصاب العملات الحديثة بالذهب وليس بالفضة/ الورق، لمرجحات فقهية واقتصادية ونقدية وعملية ماثلة.
وأن القول بأن الذهب مجرد فرع مقيس على الفضة يلزم منه القول إن نصاب الذهب اليوم أصبح 5 دنانير وليس عشرين دينارا كما ندرس وندرس!
والله تعالى أعلى وأعلم.