يمكن القول إن الدولة سفينة دستورية لتعدد نقاط الشبه بينهما وتقاطع مكوناتهما الرئيسية فلكل منهما أرضية وساكنة وسلطة.. وكما تتفاوت مساحات الدول تتفاوت أحجام السفن فمنها الضخم الذي يقارب طوله نصف الكيلومتر والصغير الذي لا يعدو أمتارا وبينهما أحجام كثيرة وكما تتفاوت الكثافة السكانية من بلد لآخر نجد سفنا مزدحمة بألوف الركاب وأخرى تبحر بآحاد وكما أن لكل دولة سلطة نجد أن لكل سفينة قيادة تسهر على الملاحة طبقا لضوابط علمية محددة ومثلما ترفع كل دولة راية ترمز لسيادتها ترفع كل سفينة علما يحدد جنسيتها والميناء الذي تعود إليه.. وبتفاوت أساليب الأمم في اختيار القادة ومحاسبتهم تختلف شروط وأنظمة القباطنة من سفينة لأخرى.
ومن آيات التشابه أن هشاشة الدول ووسائلها تقابله في مراسي السفن هياكل متفاوتة من الفولاذي المتماسك إلى الخشبي المتهالك ناهيك عن مستوى المكننة فمن السفن ما تنقطع الإنارة عن مقصورة قيادته ليلا ومنها ما هو مجهز بمنبهات ووسائل متطورة تساعد في ملاحته وتوجيهه ومن السفن الشراعي العتيق الذي يترقب الريح الطيبة وتتلاعب به الأمواج مما يوجب على طاقمه أن يبذل جهودا مضاعفة للتصدي للمخاطر المحدقة وربما تطلب الموقف أن يجدف الجميع ويغترف المياه المتسربة حتى لا يجنح المركب.
ولحماية السفينة من الجنوح يجب على ربانها أن يتحلى بالمسؤولية واليقظة الدائمة بتجنب سلوك القنوات الضيقة المحفوفة بالمخاطر ومطالعة الظروف الجوية لما يمكن أن تسببه من اضطراب في المحيط وبمعادلة الحمولة (ادبش) في الجانبين حرصا على التوازن وعليه أن يستحضر دوما أن من الخطر دفع الركاب والكيانات المستفيدة من "مزايا القمرة" للتجمهر واستفزاز المحرومين لأن ذلك قد يؤدي للصدام.. ومن أسباب سلامة المركب إرجاء الإصلاحات غير اللازمة التي تعرقل السير المنتظم للسفينة خاصة عندما لا يشكل التدخل ضرورة ملحة وعندما لا تتوفر في طاقم القيادة كفاءات قادرة على إنجاز العمل طبقا للمعايير الفنية أحرى إن كان الوقت المتبقي من عقد الربان قد لا يتسع لإكمالها.
تلك تشبيهات أردت أن أمهد بها لهذه المعالجة، الهادفة لإقناع من يهمهم الأمر، بالمخاطر الحقيقية المحدقة بموريتانيا كما أبينه من خلال الرجوع لبيانات مؤشر محايد وذي مصداقية دولية (1) ومن ثم أتناول مغامرة الإستفتاء التي بدأت إرهاصات أخطائها (2) وأذكر نماذج ملموسة من التجاوزات القانونية والعراقيل التي تلوح في الأفق (3) قبل أن أعرج على ما تقتضيه مسؤولية الربان في الظروف المضطربة (4) وأختم المقال باقتباس أدبي يخدم الموضوع (5).
1.
تواجه الجمهورية الإسلامية الموريتانية مخاطر، لا يبدو أن الرئيس يدركها: فطبقا لمؤشر هشاشة الدول Fragile States Index (FSI) الذي يصدر سنويا عن صندوق السلامFund For Peace في نشرته الأخيرة (الصادرة 2016) تصنف موريتانيا ضمن المنطقة الحمراء في الرتبة 28 على قائمة الدول المهددة على الصعيد الدولي بمعدل خطر يصل 95,4 من أصل 120 درجة تمثل مجموع نقاط الخطر.. ومن دواعي الفزع أن البلاد تتقدم شيئا فشيئا على قائمة الدول الفاشلة حيث كانت سنة 2008 في المنطقة البرتقالية (الرتبة 47) بمستوى خطر أقل يبلغ 86,1 قبل أن تتقدم في اتجاه الهاوية بتسع عشرة رتبة (19) حيث تتوسط البلاد الآن المنطقة الحمراء في الطابور الذي تحتل الصومال صدارته، وهذا ما يمكن الوقوف عليه بفتح الصفحة الرئيسية لصندوق السلام FFP حيث يتيسر تتبع منحنى الخطر في البلاد على مدى السنوات الماضية.. وبالمناسبة فإن صندوق السلام هيئة بحثية مستقلة تسعى لرصد وتقويم المخاطر التي تواجهها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتقوم درجة هشاشة كل بلد منها بالإعتماد على اثني عشر معيارا (الضغط الديموغرافي، الهجرة، الفئات المظلومة، هجرة الأدمغة، التحفيز الإقتصادي، التدهور الإقتصادي، شرعية السلطات، الخدمات العامة، مدى مراعاة حقوق الإنسان واحترام القانون، كفاءة الجهاز الأمني، صراع النخب ومستوى التدخل الخارجي) وتنشر معطيات مؤشر هشاشة الدول سنويا في مجلة Foreign Policy الذائعة الصيت وطبقا لمخرجات هذا المؤشر وغيره يرتب الكثير من المستثمرين أجنداتهم.
2.
لقد تابعنا، يوم 22 مارس 2017، تعبير السيد الرئيس عن عزمه على إجراء استفتاء شعبي يتعلق بتعديل الدستور بالإستناد للمادة 38 وهو ما اعتبره جمهور القانونيين تعسفا لأن التعديل الدستوري منظم بمواد خاصة (99، 100 و101) كما بسطناه في إعلان مبادرتنا وبررنا في مقالات سابقة : "تنقيح المنشور حول تعديل الدستور" و"المقاصد الدستورية". وكان من اللافت تأكيد القائد على أنه ليس للمجلس الدستوري شأن بالعملية المزمعة، مما يعني أن مستشاري الجمهورية، الذين يرضى عنهم الرئيس، قصروا في تنبيهه لما تنص عليه المادة 85 من الدستور: "يسهر المجلس الدستوري على صحة عمليات الإستفتاء ويعلن نتائجها" وبذلك يكون من الوارد تخوف الموريتانيين من أن تنفق مواردهم في "طبخة دستورية" غير مهيأة للنضج وربما مج الكثيرون مخرجاتها ورفضها بعضهم كما عبر أحد الشباب عن ذلك بإحراق الشريطين الأحمرين المرشحين للإلتحاق بالعلم.
وبعد المؤتمر الصحفي صدر بيان مجلس الوزراء المتعلق بدورته المنعقد يوم الخميس 30 مارس 2017 التي صادق فيها على "مشروعي قانونين دستوريين استفتائيين" يتعلق أولهما بمراجعة بعض أحكام دستور 20 يوليو 1991 والثاني بمراجعة المادة 8 من دستور 20 يوليو 1991 ولعل الملاحظة التي تتبادر لذهن القانونيين هو أنه كان من الحري برئيس الجمهورية إذا كان يتمسك بأن من صلاحياته الدعوة لاستفتاء بغرض تعديل الدستور أن يصدر مرسوما رئاسيا يستفتي بموجبه الشعب حول مبدأ التعديل الدستوري لأن المراسيم هي وسائل ممارسة رئيس الجمهورية لسلطته وبدلا من تمرير ترتيب رئاسي في اجتماع الحكومة كان من الأولى إحالته إلى المجلس الدستوري لفحص صحة عملية الإستفتاء من حيث المبدأ طبقا للمادة 85 من الدستور تمهيدا لإجازة العملية فما دامت إحالة القوانين النظامية للمجلس الدستوري لازمة للبت في مطابقتها للدستور فمن الأولى أن تحال مسطرة التعديلات الدستورية لتحري سلامة أصلها وإجراءاتها.. أما عملية التعديل من حيث الموضوع فلا يتم النفاذ إليها إلا بعد مصادقة الشعب وتتطلب طاقات مادية وبشرية ووقتا ومن الخطأ بمكان ارتجالها والتسرع في إعدادها لأن دستور 1991 وتعديلات سنة 2006 التي جمع لها قانونيون أكفاء وأخذت وقتا وموارد تتضمن ثغرات معتبرة وقد بدأت إرهاصات الأخطاء بالفعل.
3.
يتعين التنبيه إلى أن المادة 38 من الدستور التي نتمسك بعدم انطباقها على التعديل الدستوري الذي تحكمه مقتضيات المواد 99، 100 و101 هذه المادة بعكس ما يعتقده البعض لا تشكل عصا سحرية لتذليل التعديل الدستوري الذي تقف أمامه عقبات كبرى لا يبدو أن السيد رئيس الجمهورية يقدرها، فالمادة 38 من الدستور تنص على ما يلي: "لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الإستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية" وإذا افترضنا جدلا إمكانية التأسيس على هذه المادة لإجراء تعديل دستوري فيتعين أن يتعلق موضوعها ب"قضية وطنية واحدة" وأن يكون المطلوب من الشعب هو التصويت بنعم أو لا مما يقتضي أن لا تكون هناك استفتاءات بعدد المواد المعدلة: فقد أجرت فرنسا، في ظل الجمهورية الخامسة، تسعة استفتاءات شعبية كان التصويت في كل منها بنعم أو لا مرة واحدة، ومنها "مثلنا الأعلى" استفتاء 27 ابريل 1969 (المتعلق بالجهوية وبإصلاح مجلس الشيوخ الفرنسي) الذي اقترحه الجنرال ديغول وكسبه المصوتون بلا مما أدى لاستقالة الرئيس الفرنسي غداة إعلان النتيجة.
وبـالــرجــوع لـبـيـان مـجـلـس الـوزراء نـقـرأ مـصادقـتـه على "مشـروعي قــانـونـيـن دسـتـوريـيـن اسـتـفـتـائـيـيـــــن" Loi constitutionnelle référendaire في اقتباس غير موفق من القاموس التقنيني الفرنسي "لعدم اعتباره للسيادة الوطنية" من جهة ولأن تسمية القانون الدستوري لا تطلق على الترتيب إلا بعد المصادقة عليه كما أن المصطلح لا ينسجم مع المنظومة القانونية الوطنية فالمصادقة على مشروع قانون أيا كان، في مجلس الوزراء، تليها إحالته للبرلمان أما إذا كان غرض رئيس الجمهورية هو الإنفكاك من مسطرة التشريع العادية وتجاوز البرلمان فكان من الحري به أن يصدر مرسوما رئاسيا وأن لا يعبأ بمجلس الوزراء لأنه لا شأن له بالموضوع اللهم إلا إذا استشاره بطريقة سرية.
علاوة على ذلك فإن عملية التقنين عملية حساسة ودقيقة يصعب إنجازها بطريقة مقبولة فإضافة الخطين الأحمرين للعلم، التي يتوهم الكثيرون أنها قضية سهلة وميسورة تخللت مستهلها أخطاء بالغة: فقد تمت صياغة المادة 8 من الدستور المقترح تعديلها كما يلي: "الرمز الوطني هو علم يحمل رسم هلال ونجم ذهبي اللون على خلفية خضراء. وعلى جانبيه شريط أفقي مستطيل أحمر اللون.." ومن قراءة هذه الفقرة (التي نشرها موقع الأخبار محلاة بتأشرة التشريع) يتبين أن المضاف إليه في عبارة جانبيه غير جلي (جانبي ماذا؟) فإذا كان المقصود هو الرمز الوطني فإن الشريطين الأحمرين يكونان خارجه ولا يشكلان جزءا منه خاصة مع وجود نقطة نهاية بعد عبارة "خضراء".. ولا يمكن أن نرجح أن المقصود هو الهلال لأن النجم عطف عليه ومن يقصدهما يتعين أن يقول وإلى جانبهما.. وحتى إن غض "أهل العربية" الطرف وتجرعوا الصياغة على علاتها فإن الخطين المقترحين يتعين، تطبيقا لهذه المادة، أن يكونا عموديين كي يكونا "إلى جانبيه" وهو ما يخالف جذريا المجسم الذي رأينا والذي يظهر الشريطين الأحمرين ممتدين أفقيا ومتوازيين في حدي العلم العلوي والسفلي وليس في جانبيه.. وما يستفاد من هذا الإخفاق هو أن من يعجز عن صياغة سليمة لهذا التصور البسيط لا يتعين أن يجرؤ على إلغاء مجلس الشيوخ لأن ذلك يوجب تعديل 17 مادة من الدستور على الأقل ناهيك عن مواد المجالس الجهوية وغيرها.
هذه النواقص المتكررة في التشريع الوطني التي سبق وأن تناولت في كتابي "مباحث في سبيل العدل" ناتجة عن عدم اعتبار معيار الكفاءة في اختيار المسؤولين وهي ظاهرة تفاقمت، بشكل كبير، في ظل حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
وبناء عليه فإن من التبذير إنفاق موارد الدولة لصناعة منتج دستوري معيب يربك الساحة وربما كان مدعاة لتندر الشامتين الأجانب.. فالحد الأدنى من سلامة الإجراءات يقتضي الحصول على موافقة الشعب المبدئية على إجراء تعديل دستوري يتلوه تشكيل لجنة تأسيسية من أهل الخبرة والكفاءة وهو ما يتطلب تشاور كافة القوى الحية لأن من اللازم تعبئة كفاءات قانونية كبرى والإستعانة بعلماء اجتماع ولغويين وسياسيين وغيرهم.
4.
إن ربان السفينة لا يجب أن يكون ميكانيكيا متخصصا كما لا يجب أن يكون رئيس الدولة فقيها دستوريا ولكن يتعين على كليهما أن يلم بالكليات التي تحكم عمله بحيث يحيط بما علم من المقتضيات بالضرورة كي يتمكن من احترامه وحمايته ولذلك يحتاج الرئيس لأن يسترشد بمستشارين موضوعيين غير مقيدين بالمواقف السياسية. وعلى الرئيس الموريتاني، أيا كان، أن يدرك أنه في بلد لا يحبذ فقهاؤه، الذين يتقلدون مسؤوليات عامة، إفتاء الرئيس بما يخالف رغبته وهو ما يقتضي منه، عندما يستفتي، أن يكتم توجهه أو يؤكد على المستشارين بأن الدولة تطلب مشورة محايدة ولا تبحث عن تبرير قرار مبيت أما العزم فيتعين أن لا يكون إلا في مرحلة لاحقة على الإستشارة.
إن "رئيس الجمهورية هو حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة ويضمن، بوصفه حكما، السير المضطرد والمنتظم للسلطات العمومية.." طبقا للمادة 24 من الدستور، لذلك يجب عليه التسامي عن الصراعات السياسية ما عدا ما تفرضه منها ظروف خاصة ومؤقتة كخوض غمار الحملات الإنتخابية مثلا وهو أمر يفترض أنه سقط - في المستقبل المنظور على الأقل - من حسابات السيد محمد ولد عبد العزيز بقسمه وتأكيداته المتكررة ولذلك يمكنه لعب دور حكم محايد إن أراد خدمة بلده في الفترة المتبقية من مأموريته هذه. فما من رئيس يفوز في انتخاب إلا ويصدع في خطابه الأول بأن صفحة الحملة قد طويت وبأنه سيعمل كرئيس للجميع ويعول على الجميع. صحيح أنه تبعا لسنة الله في الخلق يتفاوت اتساع صدور الناس والقادة ودرجة اطلاعهم وتقبلهم للآراء المخالفة ولكن الله جل شأنه قضى بأن "الذكرى تنفع المؤمنين".
وجملة القول أن على رئيس الجمهورية أن يدرك درجة الهشاشة التي وصلتها سفينته كما تثبته تقارير دولية محايدة وأن يقدر صعوبة التعديل الدستوري وما يتطلبه من وسائل مادية وبشرية ووقت وأن يقتصد موار بلده فيما ينفع الناس ويبحر بمركبه إلى المرسى المحدد سلفا لأن من الخطير الإنحراف في اتجاه لا يرضاه الجميع.. صحيح أنه يسوغ للربان التحكم في سرعة المركب وإجراء إصلاحات مقبولة أثناء الإبحار (باستخدام القوانين والمراسيم) واستخدام المصابيح أما التطاول على المقتضيات الدستورية والإنحراف واستبدال الصارية أو الماكينة الرئيسية وغيرها من المراجعات الكبرى (Grandes révisions) فتتطلب موافقة جميع الملاك لتكلفتها الباهظة ولما تتطلبه من وقت وخبرة تستلزم التشاور قبل رفع السفينة على حوض جاف يمكن المصلحين من الوقوف على أرضية صلبة. وبالنظر للأسباب أعلاه ليس من القانون ولا الحكمة المساس بالدستور في الظروف الحالية خاصة وأننا في الرحلة الأخيرة لربان السفين وأن بعض الثقات من الركاب شعر بالقلق لدرجة التساؤل عما إذا كان الربان فقد بوصلة الإبحار.
5.
واعتبارا لرمزية الأدب وأهميته عند المواطنين الموريتانيين أختم، هذا المقال، بصورة شعرية تخدم الموضوع، اقتطفتها من رائعة "السفين" لأحمدو ولد عبد القادر عندما ذكر نبوءة ضاربة الرمل (الكزانه): "رأيت رؤوسا من المعـز تقضم أخشاب بعض العوارض.. وتلحس صارية صدئت ومالت على نفسها ومال الشراع.." وسواء صدقت المنجمة أو كذبت، فإن الأولوية هي إقامة صارية سفينة الوطن ورفع شراعها فموريتانيا تتسع لجميع مواطنيها وتحتاجهم ولذلك يتعين أن نقف صفا واحدا تحت علمنا الأخضر ونجمته وهلال الذهبيين.. وأن لا نتغافل عن حقيقة كون مجتمعنا يكره اللون الأحمر ويحترم الشيوخ.