لم يستفق العالم، حتى الآن، من هول الصًدمة التي سببتها جائحة كورونا المستجد، رغم مضي أربعة أشهر على الإعلان عن تفشٍي هذا الفيروس، الذي جيًشت له كل الدول ما أٌوتيت من خبرة ومخابر في مغالبة، لا يبدو توقيت حسمها قريبا. ذلك أن الوفيَات تعد بالآلاف يوميا، والإصابات تجاوزت ثلاثة ملايين شخصا حسب الأرقام المعلنة. ولا يتوقع خبراء الصحة، وهم رأس الحربة في مواجهة هذا العدوٍ الشًرس، وجود سلاح فعال للقضاء عليه قبل فترة تتراوح بين سنة ونصف أو سنتين على أقل تقدير.
والواضح أن عنصر المباغتة قد فعل فِعْلَه في هجمة كورونا على كافة المجتمعات في مختلف الأصقاع دون سابق إنذار. فحكومات العالم ما تزال في حيْرة من أمرها، لا تدري ما ذا تفعل أمام خيارين أحلاهما مرٌ: عزلٌ وإغلاق أم عودة لنظام الحياة المعهودة، مع ما يكتنف كلاً من الخيارين من مخاطر لا يمكن التنبؤ بها!
فإجراءات التباعد الاجتماعي والإغلاق، وإن ظهرت فعاليتها في الحد من تفشي العدوى بين الناس بوتيرة سريعة، لا تستطيع الصمود لفترة طويلة، بسبب الآثار الصعبة الناجمة عن توقف الأنشطة المدرة للدخل، وما يترتب على ذلك من تضييق على الناس في أرزاقهم.
كما أن السماح بفتح المؤسسات والعودة إلى الحياة الاعتيادية، رغم ما يتيح من نشاط اقتصادي واجتماعي وسياسي، قد يكون سببا في نتائج كارثية؛ تنجر عن اختلاط الناس وانتشار الفيروس، مضاعفا عدد ضحاياه من وفيات وإصابات!
لذا، نرى قادة بعض الدول العظمى يعلنون عن مواقف مترددة، تنم عن حالة الارتباك والحيرة التي يشهدها العالم. فتارة يدعون إلى العزل والإغلاق وتارة يصرحون بأنهم يعتزمون فتح المؤسسات الاقتصادية والتربوية والإدارية!
ولعل الجدل الدائر على أشُدٍه في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، بين دعاة العزل وأنصار "الفتح" أسطعُ دليل على التخبط الذي يطبع سلوك العالم هذه الأيام، ناهيك عن غياب التنسيق بين الدول ونسف آليات التعاون بين الأمم.
وفي بلادنا، قامت الدولة بما يجب أن تقوم به، حيث أعطت التدابير الاحترازية المتخذة من قبل السلطات العمومية نتائج جيدة، مكنت من الحد من تمدد الوباء حتى الآن. وكان لتعاون المواطنين وصبرهم دور أساسي في نجاح جهود الدولة بأجهزتها المختلفة؛ وخاصة قطاعات الصحة والأمن والدفاع. .
بيد أن هذه التدابير الاحترازية ـ رغم نجاعتها ـ لم تأت ضمن استراتيجية للتعايش مع آفة كورونا لمدى زمني طويل أو متوسط، وإنما جاءت استجابة سريعة ومؤقتة للتعاطي مع ظرفية طارئة، أربكت العالم وغيرت جميع الحسابات والأجندات السابقة. إذ لا يمكن للمواطن أن يتحمل وطأة الظروف الحالية لمدة أطول من الفترة المعلنة، كما أن الدولة لا تستطيع أن تغطي احتياجات جميع المواطنين في ظل "الغلق" الحالي لمدة أطول من ثلاثة أشهر.
فنجاحنا في الشوط الأول من المباريات لا يعني بالضرورة أن فوزنا في الشوط الثاني مضمون. ففي الشوط الأول اتبعنا تكتيكات موفقة، أما في الشوط الثاني فنحن بحاجة إلى استراتيجية متكاملة، لا تبدو ـ إن وجدت ـ معلومة لدى الجميع وخاصة المتعجلين على "الفتح".
وقد أضحى من الضروري لبلادنا أن تعتمد مقاربة، تأخذ في الحسبان ما تحقق من إنجازات في مرحلة الاستجابة السريعة، وتؤسس عليه في بناء خطة استراتيجية؛ تراعي البعد الزمني والحالة الاقتصادية والاجتماعية ومستوى تطور الوباء في العالم وفي دول الجوار.
فأفضل سناريو يتبادر إلى الذهن خلال المرحلة القادمة هو ذلك المتمثل في إعادة «الفتح الجزئي" في الداخل وإحكام إغلاق الحدود، مع فرضية التعايش مع حالات معدودة من المرضى في حدود الطاقة الاستيعابية لمرافقنا الصحية. فمن الوهم أن نتصور أن بلادنا يمكن أن تظل خالية من الفيروس لمدة طويلة، وهو يعيث في جوارنا وفي العالم فسادا!
إن خلو البلاد من مصابين مؤكدين في الوقت الحالي، يمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس والتخطيط للمستقبل، بطريقة تمكنننا من استثمار كافة العناصر الإيجابية المسجلة في تجربة الأسابيع الماضية. وتبرز في مقدمة تلك العناصر، بالإضافة إلى الإجراءات الأمنية والعطاءات الاجتماعية، مبادرات التشاور مع قادة الرأي في المجتمع السياسي والنقابي والمدني، وتنسيق الجهود مع رؤساء دول الجوار.
ومن المناسب أن يوضع لهذه الاستراتيجية إطار زمني مناسب (سنة قابلة للتمديد عند الضرورة)، على أن تتم التوطئة لها بوضع ترتيبات لحل بعض المشاكل العاجلة، قبل الشروع في تنفيذ الجوانب الطويلة الأمد.
إجراءات تمهيدية عاجلة
- تهيئة محاجر صحية دائمة طيلة الفترة القادمة بجوار المعابر الرئيسة لإيواء الوافدين من الخارج.
- تزويد عناصر الأمن وأفراد الجيش بوسائل الحماية الضرورية، وتعبئتهم حول أكثر الطرق سلامة في التعامل مع المواطنين، تجنبا للعدوى.
- تنظيم رحلات للموريتانيين العالقين في الدول الأجنبية، الراغبين في العودة إلى الوطن، حسب ترتيب يراعي ظروفهم؛ فالمرضى أولا، والطلاب والعائلات ثانيا، والسياح والمغتربون في مرحلة ثالثة.
- إصدار تشريعات تجرم نشر فيروس كورنا وتحدد عقوبة مرتكبي جريمة نشره بين الناس (جنحة أو جناية)، سواء عن طريق التسلل عبر الحدود إلى الوطن دون ترخيص، أو تحاشي السلطات الأمنية الموجودة عند المعابر الحدودية، أو الفرار من الحجر الصحي، أو الاستمرار في مخالطة الناس بعد الشعور بأعراض المرض، وعدم إبلاغ الجهات الصحية المختصة عبر قنوات الاتصال المعروفة؛ كما يجب اعتبار المتواطئ مع مرتكب جريمة نشر كورونا مجرما، تطاله نفس العقوبة المنصوص عليها في حق مفشي كورونا.
- سن تشريعات استثنائية، تراعي خصوصية الظرف ومقتضيات المرحلة؛ من قبيل تعطيل حرية التجمع وإخضاع حرية التنقل، طيلة فترة التعايش مع كورونا، لقيود وضوابط تحددها السلطات العمومية المختصة.
ملامح مقاربة متوسطة المدى
تستهدف هذه المقاربة البحث عن نمط تنظيمي، يوائم بين ضرورة الاحتراز صحيا، وإكراهات الحياة اقتصاديا واجتماعيا. وتتنزل في هذا السياق جملة الإجراءات التالية:
1.تكثيف الاختبارات الكشفية عن الفيروس بصفة دورية وباختيار عينات المستهدفين عشوائيا.
2.عند التأكد من خلو البلاد من الفيروس لمدة أسبوعين متتاليين، يمكن للسلطات العمومية ـ حينها ـ أن تسمح باستئناف الأنشطة الإنتاجية والتجارية والتعليمية والعودة إلى الشعائر الدينية المعطلة؛ على أن يتم ذلك بصفة تدريجية.
3.الإبقاء على الحدود مغلقة طيلة فترة التعايش مع كورونا، وهو ما يضاعف العبء الملقى على كاهل قوى الأمن والجيش والسلطات الإدارية في الحدود.
4.المحافظة على المحاجر الصحية مفتوحة، خاصة المجاورة منها لنقاط العبور، نظرا لاستحالة السيطرة الكاملة على جميع المنافذ، وسلوك بعض المواطنين الجشعين، ممن تعودوا تهريب البضائع في ظروف استثنائية، يعتبرونها مثالية، لنيل الأرباح.
5.إعادة ترتيب الأولويات، بما يناسب طبيعة المرحلة، وهو ما يستدعي مراجعة الميزانية لتتحول إلى ميزانية استثنائية للتعايش مع آفة كورونا؛ وقد يقتضي ذلك من بين أمور أخرى، ما يلي:
أ ـ مضاعفة الموارد المالية المخصصة لتوفير الأغذية والأدوية والتجهيزات الطبية وتلك التي لها علاقة بإنتاج المواد الغذائية.
ب ـ تخصيص علاوات وامتيازات معتبرة للأطقم الطبية وأجهزة الأمن وأفراد الجيش المكلفين بمهام في إطار استراتيجية محاربة جائحة كورونا، بما يتناسب مع الجهود التي يبذلون، والمخاطر التي يتعرضون لها.
فمنهم من يرابط عند بوابات الحدود، تحت لهيب الشمس ولدْغِ البعوض، بعيدا عن الأهل والأحبة، ومنهم من يواصل الليل بالنهار في مواجهة مباشرة مع عدُوٍ شرِسٍ مستترٍ، جعل من أجسام البشر مَوْطِنا له، ومن أنفاسهم وسيلة نقله المفضلة. إنهم يستحقون التكريم والاحترام من الأمة، والتشجيع والحوافز من الدولة.
ج ـ إنشاء مخازن تبريد بطاقة كبيرة لحفظ المواد الغذائية الطازجة، مثل البقول والخضروات والأسماك والدجاج.
د ـ مضاعفة مخصصات الاستثمار في القطاع الصحي، لضمان اقتناء معدات الفحص وأجهزة التنفس الاصطناعي بالأنواع والكميات المطلوبة.
ه ـ تخصيص موارد كافية لاستيراد مواد الإنتاج الزراعي، من بذور وأسمدة ومبيدات حشرية وأدوات وآليات؛ تساعد في إنجاح حملات الزراعة المروية، والمطرية، وزراعة البقول والخضروات.
و ـ توسيع قوائم المشمولين بالمنح النقدية والعينية، وكفالات الماء والكهرباء، التي أعلن عنها رئيس الجمهورية في خطاب الوعْي يوم 25/03/2020.
ز ـ تقديم الدعم لأصحاب المشاريع والمؤسسات الصغيرة، المتضررة من الإغلاق في الفترة المنصرمة، بما ينقذها من الانهيار ويؤمن للعاملين فيها أقواتهم.
ونظرا لمحدودية الموارد وتزايد الاحتياجات والمطالب، فمن الضروري اقتطاع بعض المبالغ المخصصة للاستثمار في مشاريع يمكن تأجيل تنفيذها؛ مثل بناء الطرق والمنشآت الإدارية، واقتناء بعض أنواع السيارات، وإقامة المنشآت المائية الرعوية التي يصعب إنجازها قبل حلول موسم الأمطار القادم...
ح ـ حظر تصدير المواد الغذائية المنتجة محليا، إلا بترخيص خاص من الحكومة، وبناء على مبررات وجيهة. وقد يكون من المناسب في هذه السنة مضاعفة الضرائب على البضائع المستوردة، ذات الطابع الكمالي مثل السجائر، وبعض التجهيزات ذات الكلفة العالية.
توصيات:
إن الأفكار الواردة في هذه الورقة لا تشكل ـ في نظري ـ مقاربة متكاملة لمواجهة طويلة الأمد مع الجائحة، بقدر ما تحاول إثارة بعض العناصر التي يمكن الاستئناس بها في رسم استراتيجية، يعهد بإعدادها إلى فريق من الخبراء والمختصين، تحت إشراف لجنة وزارية؛ على أن تكون موضع تشاور مع مختلف الشركاء السياسيين والاقتصاديين والفاعلين في المجتمع المدني، قبل إقرارها.
ولا يخفى ما لتهيئة المواطنين، نفسيا واقتصاديا واجتماعيا للتعايش مع هذه الوضعية، من أهمية، خلال الفترة القادمة؛ مما يتطلب إشراك أخصائيين في علم النفس وعلم الاجتماع وفقهاء وأئمة وإعلاميين ومثقفين.
كما يتعين مواكبة الاستراتيجية القادمة، بخطة اتصال يشرف عليها فريق إعلامي مختص، يتابع التطورات الحاصلة في مجال مكافحة الوباء وطنيا ودوليا، ويرصد التجارب الناجحة للدول والمنظمات والأفراد، في التعايش مع هذا الوباء، ويصحح المفاهيم المغلوطة المتداولة، على نطاق واسع، عبر وسائط الاتصال الاجتماعي.
ولتدارك الأخطاء المحتملة وتصحيحها، يجب أن تعتمد للمتابعة والتقويم، آلية تضمن الشفافية في التسيير والصرامة في التعامل مع الخروقات المحتملة.
حفظ الله شعبنا وأشقاءه وسائر شعوب الأرض.