الفسيلة في قيم العرب النبيلة (2)

صبر النفس عند كل ملم *** إن في الصبر حيلة المحتال.

ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال

 

 

البيتان لعبيد بن الأبرص صاحب المعلقة: "أقفر من أهله ملحوب"؛ و هو من الشعراء الذين لا يخلو شعرهم من الحكم والقيم الجميلة وقد تجد فيه عظات ولمحات إيمانية واضحة كقوله في معلقته:

 

من يسأل الناس يحرموه *** وسائل الله لا يخيب.

بالله يدرك كل خير *** والقول في بعضه تلغيب

 

و من جميل شعره قوله في داليته:

أبلغ أبا كرب عني وأسرته *** قولا سيذهب غورا بعد أنجاد

يا عمرو ما راح من قوم ولا ابتكروا *** إلا وللموت في آثارهم حادي

يا عمرو ما طلعت شمس ولا غربت *** إلا تقرب آجال لميعاد

هل نحن إلا كأرواح تمر بها *** تحت التراب؛ وأجساد كأجساد

الخير يبقى وإن طال الزمان به *** والشر أخبث ما أوعيت من زاد

 

ويروي الأصفهاني وغيره قصة وفاته الغريبة، وذلك أنه دخل على الملك النعمان بن المنذر في يوم بؤسه وقد كان له يومان في السنة: يوم نعيم ويوم بؤس فأول قادم عليه في يوم نعيمه يعطيه مائة ناقة سوداء وأول قادم عليه في يوم بؤسه يقتله ويطلي بدمه الجدران؛ فلما دخل عليه عبيد في يوم البؤس قال له: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد؟ فقال: أتتك بحائن (أي هالك) رجلاه؛ فأرسلها مثلا؛ ثم قال له أنشدني من شعرك قبل أن أقتلك؛ قال: قد حال الجريض دون القريض؛ فأرسلها مثلا.. إلى آخر القصة التي انتهت بقتله.

 

عودة إلى البيتين السابقين :

صبر النفس عند كل ملم *** إن في الصبر حيلة المحتال

ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال

 

 

أي احمل نفسك على الصبر على الشدة والمحنة التي تلم بك فنعم الحيلة والعدة الصبر؛ وربما تجزع النفس من شدة يعقبها فرج و خير؛

 

والصبر باب عظيم من أبواب الخير؛ كما أن الشدائد والمحن والابتلاءات هي مفردات ملاصقة لحياة كل إنسان في هذه الدنيا.

 

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة النار

 

هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته أزمان

 

وقال الحق سبحانه {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}

 

وقال: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}.

 

فحياة كل واحد منا إنما هي محطات سرور وحزن وضيق وسعة وشدة ورخاء؛ فالإنسان العاقل يركب لكل حال من هذه الأحوال ركوبها؛ شكرا في السراء وصبرا في الضراء.

 

ففي لحظة ما من هذه اللحظات التي تضيق بك الدنيا فيها وتنهال عليك الهموم والمشاكل من كل صوب حتى تظن بأنك ربما أذنبت ذنبا عظيما وهذا جزاؤه قد عجل لك في الدنيا أو تظن بأنك مشؤوم أو بأن الكون كله يتآمر عليك وأنك وحيد في هذه الدنيا ولا أحد يحس بك أو يتألم لألمك وأنه لا أمل في تغير هذا الحال.

 

توقف هنا واطرق باب الصبر والثقة بالله تعالى وحسن الظن به؛ وتذكر قول الله تعالى {إن الله مع الصابرين} و قوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم "ما أعطي أحد عطاء خيرا و أوسع من الصبر" وقوله "ما يفعل الله بعبده المؤمن إلا خيرا إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".

 

والصبر بمفهومه اللغوي هو حبس النفس على ما تكره أو عن ما تحب.

 

فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

 

والمقصود به شرعا في هذا الباب: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط والاعتراض على أقدار الله المؤلمة. وفوقه منزلة الرضا.

 

ذلك أن الجزع لا يجمل بالعاقل ولا يغير شيئا من الأمر الواقع.

 

وما أحسن ما قيل :

تعز فإن الصبر بالحر أجمل *** وليس على ريب الزمان معول

فلو كان يغني أن يرى المرء جازعا *** لنازلة أو كان يغني التذلل

لكن التعزي عند كل مصيبة *** ونازلة بالحر أولى وأجمل

 

وههنا نقاط سريعة ينبغي استحضارها في هذا الموضوع :

1. اعلم بأن الشدائد مصانع الرجال وكل ابتلاء هو رفعة لدرجة المؤمن الصابر سواء كان في المال أو النفس أو الأهل؛
2. بالشدائد يعرف المرء أهل وده وتنكشف له حقائق من حوله من الناس :

جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي

 

3. الصبر مقرون بالفرج وأشد ساعات الليل ظلمة تلك التي تسبق انبلاج الفجر

ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعا وعند الله منها المخرج.

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج

 

4. الحر لا تحمله شدة ولا ضيق إلى التنازل عن مبادئه أو الشكوى إلى غير ذي مروءة أو إذلال نفسه للحصول على مقصوده:

لئن كانت الأحوال فينا تبدلت *** ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل

فما لينت منا قناة صليبة *** ولا ذللتنا للتي ليس تجمل

 

 

5. الشدة والمحنة فرصة للتعرف على الله أكثر والقرب منه ومناجاته والتضرع إليه فكم من محنة هي في حقيقتها منحة وعطية.

 

وأخيرا، ينبغي أن يعلم بأن هذا الصبر الذي نحن مطالبون به لا يخلو من مرارة يصعب تجرعها أحيانا ولكنها مرارة تعقبها حلاوة؛ ويهون تجرعها عند المؤمن طمعه فيما عند الله تعالى من الثواب والأجر الجزيل للصابرين والذي قال عنه في كتابه {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}