صحيح أن البلد لا يزال يعيش آثار الأزمة العالمية لفيروس "كورونا" المستجد، والتي ولله الحمد حفظ الله فيها بلدنا من هذا المارد الفتاك الذي هز كيانات دول عظمى ومتطورة، وأظهرها عاجزة لا حول لها ولا قوة.
وقد وفقت الحكومة في اتخاذ التدابير المناسبة لمواجهة هذه الجائحة، ما يعني أن البلد لم يؤخذ على حين غرة، وقد تعامل بسرعة وحزم من أجل حصر وتحييد الحالات الوافدة (وهي حتى الآن المصدر الوحيد للعدوى).
إلا أن الوقت قد حان للنظر في مراجعة خطة الحكومة في مواجهة "كورونا" وإعادة ترتيب أولوياتها، فليس من المبرر أن تستمر نفس الإجراءات بعد تأكد خلو البلد من الفيروس، فقد تماثلت ـ ولله الحمد ـ جميع الإصابات الوافدة للشفاء والحدود من المفترض أن تكون مغلقة منذ أزيد من شهر ونصف (16 مارس) والحالة الثامنة ومع أن إعلان إصابتها يبقى ظنيا، فإن جميع من خضعوا للفحص من الذين خالطوها كانت نتائجهم سلبية.. كل هذه المعطيات تتطلب من الحكومة مراجعة استراتيجيتها في التعامل مع الفيروس، من استراتيجية تحارب بالتساوي على جبهتين: داخلية وخارجية، إلى استراتيجية تركز جهود المواجهة والتحصين على الجبهة الخارجية، وجهود تخفيف الآثار والتعامل بعيد المدى على الجبهة الداخلية، وهو ما نقدم في إطاره المقترحات التالية:
أولا تقليص الوحدات الأمنية المتكدسة في المدن إلى الحد الأدنى اللازم لتأمينها، والبقية ينبغي أن ترابط على الحدود لحمايتها من الخطر الحقيقي وهو دخول المتسللين، كما ينبغي أن تظهر الصرامة الفعلية في التعامل مع المتسللين، وقد تواترت المعلومات عن تنقل الكثيرين بحرية بين الولايات بعد قرار الإغلاق، وهو ما يؤكد تواطؤ بعض المسؤولين في الأجهزة الأمنية والعسكرية!
ثانيا آن الأوان ليجد العالقون في الدول المجاورة من مرضى وطلاب تقطعت بهم السبل حلا سريعا لمعاناتهم، فإنه من المؤسف أن نسمع عن دول هنا وهناك تجلي رعياها الراغبين في العودة وأحيانا تسير رحلات لتنقل آحادا، ومع ذلك يستمر رفض الحكومة لوضع خطة لإجلاء رعاياها من المرضى والمحتاجين، ولا مبرر للقول بأنه قد يكون ـ لا قدر الله ـ من بينهم مصابين، فهذا يؤكد ضرورة نقلهم، فهم في النهاية مواطنون مسؤولية علاجهم وحمايتهم على دولتهم، ومن العار أن يتركوا للموت أو التشرد في دول لن يكون علاجهم ولا ضمان سلامتهم في سلم أولوياتها.
هذا بالنسبة للإجراءات المتعلقة بحل مشكل العالقين وحماية الحدود، أما في الداخل:
فاعتقد أنه آن الأوان لرفع الحظر عن الأسواق والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فكما أن منظومة البلد الصحية لن تحتمل ـ لا قدر الله ـ انتشار الفيروس، فإن منظومة البلد الاجتماعية والاقتصادية لن تحتمل هي الأخرى استمرار هذه الإجراءات المتشددة، ورغم أهمية الإجراءات المتخذة من طرف الحكومة وضرورتها إلا أنها تبقى محدودة الأثر لأنها تستهدف فقط فئة محدودة من الطبقة الهشة شبه عديمة الدخل، ولكنها ليست الطبقة الأكثر إنتاجية ومردودية على الاقتصاد، فالطبقة المتوسطة ودون المتوسطة هما الأوسع والأكثر انتشارا وهما من أهم مصادر ثراء أصحاب رؤوس الأموال وأكبر داعم للطبقة الهشة، واستمرار الحكومة في الضغط الكبير وغير المبرر على هذه الفئة سيولد انفجارا خطيرا قد لا تحمد عقباه، وقد بدأت مظاهر هذا السخط والتذمر تظهر للعيان لمن يعايش الناس ويخالطهم، فيمكن لصاحب المحل أو الحرفة أو العامل أن يتكيف بصعوبة مع شهر من توقيف العمل، وسيعجز في شهره الثاني ولن يتنبأ أحد برد فعله في الثالث، خاصة أن الحكومة من المستحيل أن تقدم دعما ذا بال لهذه الفئة الهامة والكبيرة من المجتمع، فقد سمعت مرة مطالبات بتحمل إيجار المحلات المغلقة خلال أشهر الحظر ولم أسمع أنها وجدت آذانا صاغية، ولا أعتقد أنها ستجد، فيبقى الأمر الوحيد الذي تستطيع الحكومة تقديمه لهؤلاء هو أن تتركهم يزاولون أعمالهم وعليها هي أن تتخذ التدابير والإجراءات الاحترازية الضرورية والمناسبة.
ثانيا ليس مبررا أيضا الاستمرار في تعليق الجمع وقيام شهر رمضان (التراويح)، ونحن في نفس الوقت نشاهد التجمعات في سيارات الأجرة ـ وقد تنقلت يوم أمس في سيارتي أجرة كل منهما تحمل 7 أفراد في مساحة متر مربع ـ و يتجمع الناس في الأنشطة الرسمية وفي بعض الأسواق. كما يتجمعون لبقية الصلوات في المساجد، وفي صلوات الجنائز.. فكيف يسمح بالتجمع لأداء العادات والسنن ويمنع الناس من أداء الفرض (صلاة الجمعة)، ولكن لتتخذ الإجراءات الضرورية، ولتتحمل وزارة الشؤون الإسلامية مسؤوليتها في المتابعة وتوعية الأئمة والمصلين..
ثالثا: يجب أن تدرك السلطة أن هذا الظرف استثنائي لدواعي صحية ووقائية فقط، فلا مبرر للتضييق على الناس في التعبير عن آرائها حتى ولو خالفت وجهة النظر الرسمية، ولا تُسوغ مخالفة هنا أو هناك الاعتداء على الأفراد بالتعذيب أو الإهانة أو انتهاك حرمة المساجد كما حصل بعضه للأسف، وينبغي أن يقدر الظرف الاستثنائي بقدره، فيما يتخذ من إجراءات وقرارات وقوانين، دون مبالغة أو تهوين، وبعيدا عن الاستغلال، فالضرورة بقدر الحاجة وعندها، وغالبا ما تلجأ بعض الجهات الأمنية ومن يدور في فلكها أو المستفيدين من أوضاع معينة، إلى تضخيم الأمور والمبالغة فيها، لتعزيز النفوذ والصلاحيات، وزيادة حجم ومساحة التدخل، وهنا دور البرلمان والهيئات الحقوقية في الرقابة والمتابعة.
هذا بالنسبة للإجراءات السريعة، أما على المستوى بعيد المدى فإن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذا الوباء من المتوقع أن تستمر لسنة أو سنتين، فينبغي للحكومة أن تدرس بدقة تأثيراتها على مختلف القطاعات، وأن تستشرف الأضرار المتوقعة، وتضع الخطط الكفيلة بالتغلب عليها أو التخفيف منها.. كما أن الاستعدادات من حيث تعزيز البنية التحتية الصحية يجب أن تستمر، ومن الخطأ توقفها بمجرد إعلان خلو البلد من الفيروس، فينبغي تكوين الأطقم الصحية، وتوفير المعدات الضرورية وتجهيز المستشفيات تحسبا لأي طارئ.
كما ينبغي إدارة عمليات صندوق "كورونا" وتدخلات "تآزر" بكفاءة وفعالية وشفافية، حتى تسهم من جانبها بعيدا عن الارتجال والعشوائية كما حصل في الإحصاء المصاحب للتوزيعات الأخيرة، وهنا أنبه إلى ضرورة العمل سريعا على وجود قاعدة بيانات عن الأسر الفقيرة في موريتانيا، تكون مُحَكمة ومعتمدة رسميا، ويمكن للمجالس المحلية أن تضطلع بهذه المهمة تحت إشراف "تآزر" أو جهة ذات اختصاص.
وبإذن الله، فإننا كما نجحنا في تجاوز الآثار الصحية للمرض بأقل الخسائر، يمكننا إذا أحسنا التخطيط والتسيير أن نتجاوز الآثار الاجتماعية والاقتصادية بنجاح، بل قد تتحول المحنة إلى منحة وفرصة.
وهنا ينبغي أن تتضافر جهود الجميع في رقابة ومتابعة هذا العمل، فالنصح للوطن واجب الآن كما في كل حين، صحيح أن متطلب الوقت هو توحيد الكلمة والتعاون ورص الصفوف، ولكن النصح مطلوب أيضا ويكون بالاقتراح وبالنقد البناء والتقويم والمتابعة، فلا ينبغي للبرلمان أن يتخلى عن دوره الرقابي ولا ينبغي للمعارضة مؤسسةً وأحزابا وشخصيات أن تتخلى عن مسؤولياتها في النصح والتوجيه والنقد.