في أرض الحل والترحال دأب الناس على الانتجاع من مكان إلى مكان بحثا عن الماء والكلأ وهربا من روتين التحضر ونظام المدائن الذي يحبس المرء بين أربعة جدران ويقيد حريته بحقوق الآخرين وإحترام النظام العام...
عندما يَخضرُّ رَبع ويزدان منظره يأوي إليه الناس من كل مكان وكأنهم لم يعرفوا سواه موطنا ولم يجدوا قط أشهى من مأكله وألذّ من مشربه، وما إن تذبل أعشابه وينضب غديره حتى يغادروه الى ربع آخر بعدما أتوا على مراعيه ومياهه وبعدما قطّعوا أشجاره وأحرقوها وكأنهم لم يقولوا يوما: "يمشي عن الدار من لم يحرق الزربا" تطورت الحياة من البداوة إلى التمدن وتنقلت مهنة الترحال مع الناس إلى المدينة لتشمل جميع مناحي الحياة بعدما كانت تقتصر على الانتجاع والتكيف مع الطبيعة، فأصبح الترحال في العشق والزواج ، وفي المأكل والملبس، وفي البيع والشراء، وفي القيم والأخلاق، وفي الأفكار والقناعات، وفي التخندق والتموقع، وفي الحسب والنسب، وفي التحالف والولاءات...
ظل الارتباط بالأرض مرهونا بما تعطيه من خيرات في الوقت الحاضر وظل الولاء دائماً للمصلحة الآنية وظل السكان يمارسون حرفة الانتجاع والترحال تماماً مثل الباعة المتجولين الذين يكفرون بفن التسويق ويرفضون البقاء في مكان واحد ويظلون يطاردون الزبون طوال النهار دون أن يعرف عناوينهم ودون أن تربطه بهم علاقة زبونية خاصة، فالعلاقة تنتهي بمجرد أن تتم عملية البيع وقد يروج أحدهم سلعته عدة مرات في اليوم لنفس الزبون دون أن يعرفه...
تعتمد حياة الباعة المتجولين على الارتجال والتسرع في اتخاذ القرارات ، لذا يكرهون الاستقرار في مكان واحد ويرفضون الطابور وإحترام الأسبقية وإشارات المرور وكل أشكال التنظيم حتى وإن كانت في صالحهم...
الباعة المتجولون يظلون دائماً تجاراً صغارا رغم ديناميكيتهم ومرونتهم ، منهم من تعرفه متجولا منذ زمن طويل ولكنه يظل تاجراً صغيراً ، تراه دائماً يهرول في الشارع مثقل الكاهل شاحب الوجه يتجه للمجهول وكأن دخله مرتبط بالمسافة التي يقطعها في اليوم وكأنه كلما هرول وأسرع في المشي خدع زبونا أو أقنع آخر بشراء سلعته...
الباعة المتجولون يكذبون ويحاولون دائماً خداع الزبون في سعر السلعة وجودتها ويحلفون بكل الأيمان من أجل ربح تافه في بعض الأحيان ...
الباعة المتجولون يشعرون دائماً بالدونية أمام أصحاب المحلات الكبيرة وينظر إليهم الزبون نظرة إستهزاء وإزدراء كلما أستمع لكلامهم وشاهد طريقتهم في البيع.. ليس عيبا أن نبيع ولا أن نروّج تجارة ولكن العيب كل العيب في أن نفقد عقولنا سعياً في طلب الرزق، ليطال السّعي الضمير والكرامة والعهود ونتيهَ بحثاً عن إرضاء زبون لم يعد يثق في تجارة مزجاة تعرض عليه في كلّ مرة من طرف تجّار شَحَبت وجوههم في عالم السياسة تملّقاً وطمعاً في مال السلطان..
فمتى سيتعلم هؤلاء درسا في فن التسويق ؟ ليدركوا أن تاجرا بلا عنوان كملك بلا سلطان، وأن الثبات في مكان واحد أكثر مردودية وأكثر راحة للنفس والجسم من التحرك في كل الاتجاهات، وأن يخسر تاجر تجارته خير له من أن يخسر كرامته، وأن الرزق بيد الله والعاقبة للمتقين...