من المعلوم ان الجهات المعنية بالأمر تستعين بترسانة من الخبراء الدوليين في مجال الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص وكذا إدارة الموانئ لتقويم صفقة شراكتها مع " أرايز"،
الظاهر أنه في ظل موجات البلبلة والتشويش المدعمة بتسريب المبادلات البريدية، ترغب الدولة في التوفر على قراءة عقلانية وموضوعية لتتبين من مدى مصداقية الانتقاضات التي وجهت الى "أرايز" بعيدا عن العنتريات والمزايدات المعتادة.
يبدو من خلال التسريبات التي تمكننا من مراجعتها، أن الأسئلة المطروحة والتي تتداولها المجالس الليلية بمدينة نواكشوط يمكن اختصارها في سؤالين رئيسيين:
- كيف وصلت الشركة الى موريتانيا وكيف تمكنت من إبرام صفقتها؟
- هل الامتيازات التي منحت للشركة مجحفة ام عادية بالنسبة لمثل هذه المشاريع؟
للإجابة على السؤال الأول، لابد من استرجاع التوجهات الحكومية لسنة 2017, حينها وبدعم من البنك الدولي تمت بلورة استراتيجية استقطاب المستثمرين الأجانب في مجال البنيات التحتية، إثر عجز الدولة عن التمويل الذاتي حيث كانت تبلغ نسبة التدين %70 من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي هذا الإطار، تمت تنقية 10 مشاريع في قطاعات مختلفة ومن بينها مشروع رصيف الحاويات والمواد المحترقة بميناء نواكشوط. والجدير بالذكر أن إدراج هذا المشروع ضمن لائحة المشاريع العشر جاء عملا بتوصية من البنك الدولي
اذ أكد هذا الاخير في دراسة مدققة سنة 2015 على ضرورة توسيع القدرة الاستيعابية للحاويات بميناء نواكشوط وتوفير البنية التحتية لتمكين البواخر الحاملة للمواد المحترقة المتكررة على ميناء نواذيبو من الرسو بميناء نواكشوط مباشرة بدلا من نقل المواد الى سفن أصغر حجما تلائم تجهيزات الميناء.
وفي إطار الترويج لهذه المشاريع قامت الدولة بمجموعة من الدعايات في المنابرالإقتصادية الدولية والافريقية وأنشأت صفحة الكترونية خاصة بها لا زالت نشطة ونادي موريتانيا للشراكة بين القطاعين العام والخاص.
تمكنت الحملة التي قامت بها الدولة الموريتانية والبنك الدولي من جلب أنظار المستثمرين الدوليين ومن بينهم شركة "أرايز" وهي شركة مكونة من صندوق الاستثمار الفرنسي الضخم "مريديام" (80 مشروع \8 مليار دولار\31 دولة), المؤسسة المالية القارية "أفس" (+100 مشروع إفريقي\6.1 مليار دولار\30 دولة) والشركة السنغفورية "ؤلام" (60. دولة, 11 مليار دولارمعاملات, 72000 عامل). ولم تكن شركة "أرايز" أول من اهتم بهذا المشروع بل سبقتها إليه كل من شركة "موانئ دبي"و "بولوري" اللتان تخلتا عن المشروع لكونه لا يتوافق مع معايير المردودية لديهما والضمانات الواجب على الدولة توفيرها لمثل هذا المشروع وأبرزها الاحتكار الكلي والتفرد التام لكل حركات الحاويات.
وفي نفس النطاق فإن شركة "سديب" حاولت هي ايضا الاشتراك في المشروع إلا ان مؤهلاتها التقنية والمالية جعلت الدولة تحتاط من الاهتمام المفاجئ بالمشروع لنفس المقاولين الذين أهملوا الميناء وجعلوا بنياته التحتية على ما هي عليه من تدهور اليوم. ومن الواضح أنه تبين لأصحاب القرار أن الهدف الحقيقي ل"سديب" ليس إعطاء حل بديل بل هو تعطيل المشروع وإبقاء الحال على ما هو عليه.
وحسب ما جاءت به تصريحات مدير الشركة للجنة البرلمانية، فإنه تم التباحث رسميا مع الوزارة المعنية بالمشروع أكثر من 10 أشهر قبل توقيع الاتفاقية وأرجع هذا الاخير المدة التي تم فيها التوقيع على الصفقة الى توفر كل الدراسات الاولية التي وفرت مدة إعدادها أكتر من 6 أشهر. وقد أوضح هذا الأخير أن المدة المعهودة لإبرام متل هذه الاتفاقيات تناهز 18 شهرا من بينها المدة المخصصة للدراسات الأولية والإشهار
وفيما يخص السؤال الثاني, فان التسريبات التي تم الاطلاع عليها والتي تشمل مبادلات بريدية بين شركة "أرايز" ور ميناء نواكشوط تظهر بكل شفافية محل الخلاف الذي زاد من حدته تملص الدولة من مسؤولياتها ومحاولتها تحويل عبء هذه القضية على كتفي الميناء حيث و على الرغم من الدور الرئيسي الذي يلعبه هذا الأخير عارضت "أرايز" هذا التصرف بالتأكيد لسلطات الموريتانية ان العقد الممضى مع الدولة لا يعطي الميناء أي صلاحية للطعن فيما وقع أو مراجعته وهذا ما اعتبر تقليلا من شأنه ورد عليه باتخاذ إجراءات اعاقية من بينها طلب إخلاء المكاتب المؤجرة للشركة في اطار المشروع.
من أبرز الانتقادات التي جاء بها منتقدو المشروع، التفاوض المباشر بدون المرور بالمناقصة، حجم الاستثمار المضخم، مدة العقد والتفرد علاوة على اسعار الخدمات والعائدات المرتقبة بالنسبة للدولة.
فبالنسبة للتفاوض المباشر، يبين تحليل الخبراء أن 9 عقود من أصل 18 المبرمة في مجال أرصفة الحاويات تم إبرامها عن طريق التفاوض المباشر بين دول غرب إفريقيا والمستثمرين الأجانب. تضم لائحة هذه الموانئ ميناء دكار الجديد، ابيدجان 1 ,كوناكري، لومي 1 و2, تيما 1 و2 بغانا وليكي بنيجيريا .
أما فيما يخص التشكيك في حجم الاستثمار، فقد قامت السلطات بتقييم الأعمال المنتظر إنجازها بشكل سري من طرف شركة صينية وجاءت المفاجأة إن كانت التكلفة أكثر ارتفاعا حيث اقترحت الشركة الصينية مبلغا مماثلا للشركة صاحبة الامتياز دون أن يشمل عرضها تكاليف التجريف ورسوم التمويل للائتمان وقد طولبت نتيجة ذلك "أرايز" بتسليم كل الوثائق التقنية والمالية للمشروع غرض إعادة التمعن فيها.
وحول الجدل القائم على مدة العقد وهي 30 سنة، فقد ركز المحللون على مقارنة صفقات الموانئ الافريقية التي تم بناءها وتمويلها من طرف المستثمر بدون ان تعطى له امكانية التسيير المسبق للرصيف او التجهيزات المتوفرة. وكان الاستنتاج ان مشاريع طنجة ميد، الدار البيضاء 3, لومي 2 , وتيما 2 بغانا هي الاكثر تقاربا مع مشروع نواكشوط وتبلغ مده تعاقدها 30 الى 35 سنة مع اعطاء الإمكانية للمستثمر بتمديد العقد لمدة 10 سنوات. وجاءت هذه الخلاصات توكيدا لما اوصى به تقرير البنك الدولي حيث اقترح هذا الاخير على الدولة مدة تعاقد 30 سنة،
وقد اعتمد الخبراء على نفس المقاربة فيما يخص التفرد المنصوص عليه في العقد حيث فرقوا بين ثلاثة أنواع من التفرد، و منها المبني على نوع الباخرة (سفن الحاويات، البضائع السائبة، المواد المحترقة،…) , على نوع السلعة أو النطاق الجغرافي. وأفادت القراءة الأولية للعقد ان هذا الاخير يحتوي على تفرد النطاق الجغرافي فقط وليس فيه اي تقييدات على نوع السلع والبواخر حيث يعد هاذين الاخيرين الاكثر اعاقه ومسا بمصالح المستهلك. فبناءا على ما جاء في العقد، لن تكون هناك أي قيود على الشركات الموجودة داخل الميناء وسيبقى بإمكانها مزاولة نفس نشاطاتها إلا أن سيكون لها منافس جديد وهذا ما يضمن المحافظة على تنافسية الميناء والأسعار. وقد لمح الاختصاصيون ان هذا البند غرضه حماية المستثمر من انشاء مشروع مماثل له في محيط مقارب وهذه تحفيزات جار بها العمل في هذا النوع من العقود. ورغم توصيات البنك الدولي بإدراج تقييدات على نوع السلع والبواخر لجلب اكتر عدد ممكن من المستثمرين فان الدولة لم تعمل بذلك ويعد هذا من أكبر المكتسبات التي تم جنيها من المفاوضات حيث ان موضوع التفرد كان السبب الرئيسي في تخلي كل من "موانئ دبي" و"بولوري" عن المشروع
وقد اتهمت "أرايز" ببرمجتها رفع الأثمنة خارج كل رقابة بناء على عقدها. إلا انه تبين بعد تحليل البند المخصص للأثمنة انه بالرغم من إعطائها صلاحية تحديد اثمنتها بنفسها فإن الشركة ملزمة بالتشاور مع الدولة وايجاد الحل الوسط قبل إصدار أو تكييف اي لائحة للأسعار. واكد أحد الخبراء ان هذا متوافقا مع الاجراءات التي تضمن التنافسية عبر تغييب طابع التفرد وحماية المنافسين المتواجدين حاليا بالميناء حيث انه سيبقى بإمكان الزبون اختيار المزود الذي يقدم له أحسن الخدمات وبأقل تكلفة. فإن شاء المستثمر تحديد اسعار باهظة فان الزبون سيختار شركة اخرى لتلبية طلباته.
لقد عرضنا الاسعار المدرجة على بعض شركات التحميل المحلية التي ابدت استغرابها لكون الأثمنة غير مدققة بحيث هي مجرد شوكة أسعار. كما أوضح بعضهم أنه من الصعب التعقيب على هذه الأسعار دون الدخول في تفاصيلها ومعرفة ما تشمله بالضبط. فان اقتصرت على ما يدفعه الزبون الموريتاني لشركة التحميل دون ادراج أي خدمة إضافية فأنها بعيدة كل البعد عن الأسعار المطبقة حاليا وتفوقها بكتير
بالرجوع لعائدات العقد، يقترح المستثمر ما يبلغ ثلاثة اضعاف ما وصى به البنك الدولي في تقريره وهو بدون شك أكبر عائد على الصعيد القاري حيث انه لا تتجاوز أحسن العائدات 15 دولار للحاوية بينما يقدم المستثمر50 دولار للحاوية الصغيرة الحجم و75 دولار للكبيرة. كما انه سيدفع 2 دولار لكل طن محروقات علاوة على إيقاف عملية التفريغ والشحن واعاده النقل من نواذيبو الى نواكشوط والتي تكلف الدولة 15دولار.
ويبدو ان رغم ايجابيات العائدات مقارنة مع المداخيل الحالية للميناء فان هنالك استياء من هذه المقاربة لكونها تحول العائدات مباشرة لخزينة الدولة بدلا من خزينة الميناء.
لا تحصر هذه العائدات في نطاقها المالي المباشر فقط، اذ انه من المرتقب ان تدفع الشركة خلال 30 سنة ما يناهز 500 مليون دولار من الضرائب علاوة على خلق 1250 فرصة عمل, 750 من بينها خلال فتره بناء المشروع و500 خلال مده استغلاله.
كما انه سيكون للمشروع مجموعة من التداعيات في المجالين الاقتصادي والسياسي، حيت ستمكن الدولة الموريتانية من التوفر على بنية تحتية ذات المعايير الدولية تضمن تمركز نواكشوط بطريقة تنافسية واستراتيجية على الخط الرابط بين ميناء طنجة وتيما بغانا. ولعل أول إيجابيات المشروع ستكون تمكنه عبر طاقته الاستيعابية الموسعة من جلب حصة الأسد من واردات مشروع الغاز المشترك الى ميناء نواكشوط بدلا من ميناء داكار.
وعلى المستوى السياسي، سوف يعزز الميناء تقل الدولة الموريتانية على الصعيد الجهوي بتمكينها من إعطاء خيار ثاني لدولة مالي الشقيقة لاستيراد وتوريد بضائعها ووضع الركائز الأساسية لتنشيط فعلي ومستدام لخط طريق الامل
تتضارب الآراء ويقوى الجدل بين مؤازر ومتحفظ، بين محلل للماضي ومتطلع الى المستقبل في اول مشروع شراكة بين الدولة ومستثمر خاص والحقيقة موجودة عند الجميع، إن الذي غير موجود هو الاتفاق على اختلاف الحقائق وضرورة تقريب وجهات النظر بين الطرفين لكي يبقى لتوقيع الدولة الموريتانية تقله وهيبته في عالم الاتفاقيات الدولية والاعمال.