تحل اليوم الذكرى الثالثة لقرار قطع النظام السابق في موريتانيا علاقات نواكشوط مع الدوحة، وهو القرار الذي أثار موجة غضب واستنكار واسعة داخل أوساط الشعب الموريتاني بلغت ذروتها في انطلاق مظاهرات شعبية رافضة لهذا القرار. وقد كان لهذا الرفض ما يبرره، حيث لم تكن هناك خلافات جوهرية بين البلدين إذا ما استثنينا حساسية الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز تجاه استضافة الدوحة للرئيس السابق معاوية ولد الطايع، وعلاقة قيادتها الخاصة مع الرئيس الراحل اعل ولد محمد فال. وكل ما في الأمر أن هناك خلافا سياسيا تطور إلى أزمة غير مسبوقة بين دول خليجية والدوحة، وقد تطور هذا الخلاف لاحقا إلى إعلان هذه الدول لقطع علاقاتها مع قطر، وواكبت هذا الإجراء بحملة استقطاب حادة للدول العربية والافريقية لفرض عزلة سياسية على قطر، وتضمنت هذه الحملة كل وسائل الإغراء والتهديد.
اليوم تمر ستة أشهر وأيام، على حديث معالي وزير الشؤون الخارجية والموريتانيين في الخارج، السيد إسماعيل ولد الشيخ أحمد عندما كان يتحدث أمام النواب في مبنى البرلمان في شهر ديسمبر 2019 قائلا إن الأزمة بين موريتانيا وقطر سيتم حلها، مضيفا أن الحكومة أبقت على ميزانية السفارة الموريتانية في الدوحة لأنه في أي لحظة قد تعود العلاقات، مضيفا أن مشكلة العلاقة مع قطر ستحل مثل غيرها من المشاكل وبطريقة موريتانية خالصة.
أستسمح فخامة الرئيس ومعالي الوزير هنا لأذكرهم بهذا الوعد، ولأستنهض فيهم كذلك روح الوطنية والمبادئ التي لا يساورنا شك في تحليهم بها. أستسمحهم كذلك لأني سأحدثهم بتفويض من أكثر من 2500 موريتاني مقيم هنا احتشدوا عشية انتخاب رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني مهنئين ومطالبين بإعادة هذه العلاقات التي لا تضر قطر بشيء، كما لم تضر الجالية الموريتانية بشيء بفضل حكمة ورشد القيادة القطرية المتبصرة، ولكن بحكم المبادئ وضرورات الواقع التي تحددها المصالح المشتركة وعلاقات الدول والشعوب التي يجب إبعادها تماما عن المصالح والأهواء الشخصية. وقد وقعت الجالية الموريتانية هذا المطلب لفخامة الرئيس وبحوزتي نسخة منه.
نداؤنا لكم فخامة الرئيس لا ينطلق من فراغ، فهو حق لنا عليكم، فإن كان مكتب التصويت بالدوحة قد غاب خلال الانتخابات الرئيسية التي جاءت بفخامتكم، وهي المرة الأولى التي يغيب فيها منذ السماح للموريتانيين في الخارج بالتصويت، فإن أصوات الجالية الموريتانية في الدوحة لم تغب عن دعمكم والتعبئة لانتخابكم، ولم يكن ذاك موقفا من فراغ بل كان لهدفين رئيسيين مدروسين: أولهما القطيعة مع النظام السابق الذي لم تكن استمراريته لها مكسبا وطنيا، والثاني تصحيح جملة الأخطاء التي حصلت في عهد ذلك النظام وفي مقدمتها خطأ قطع العلاقات مع دولة شقيقة وذات مصالح مشتركة مع موريتانيا.
إن مبررات تصحيح خطأ قطع العلاقات بين موريتانيا وقطر كفيلة بتجاوز أي أضرار حدثت مهما كانت فداحتها، والتسامي على زلات مهما حزّ إيلامها، وذلك بحكم المصالح المشتركة والقيم النبيلة والقدرة على الفعل والمواجهة التي يتحلى بها قائدا البلدين، فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وسمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
إن الطريقة الموريتانية الخالصة التي تحدث عنها معالي وزير الخارجية، كما فهمناها، هي الطريقة التي تقوم على التعاطي الإيجابي مع الأشقاء، واحترام السيادة الوطنية التي عانينا من محاولات النيل منها كما يعاني منها الأشقاء هنا في قطر، ودعم جهود الوساطة والحل والسلمي بين مختلف الفرقاء، وأعتقد أن هذه هي طريقتنا في التعاطي مع أزمة الصحراء الغربية والتي حافظنا بها على علاقات متميزة مع الشقيقتين المغرب والجزائر، وهي نفس المسافة التي حافظت بها موريتانيا على علاقة متوازنة مع مختلف الأزمات العربية وما أكثرها. وكان بالإمكان إسقاط هذا المبدأ على الخلاف الخليجي الخليجي لولا، ولولا، ولولا.
هناك نقاط من المهم أن نشير إليها هنا ومنها:
أولا: رغم جسامة القرار الذي أقدم عليه ولد عبد العزيز، حفظت قطر للشعب الموريتاني حقه في الأخوة والدين والثقة المتجذرة في البلد والشعب الذي يسمونه بلد اللغة العربية والقرآن، ولو رجعنا إلى سجل الحالة المدنية ستجدون مئات العائدين اللذين أصبحوا عالة اليوم على النظام الاقتصادي والصحي في البلد من بلدان أخرى، فيما استمرت الجالية الموريتانية في قطر على وضعها الطبيعي.
ثانيا: إن المصالح المشتركة بين قطر وموريتانيا تتجاوز النظرة الضيقة لبعض المستشارين الاقتصاديين لدينا للأسف، والذين ينظرون إلى دول بعينها على أنها مصدر للتمويل السخي والمباشر، ويتناسون الدعم القطري الأكثر سخاء والأعم نفعا للمستضعفين، ولا أريد هنا الحديث عن هذا الموضوع الذي يحتاج مساحة أوسع، لكن يكفي الإشارة إلى الدعم المباشر المعلوم للحكومة، والدعم غير المباشر الذي يستفيد منه اليوم مرضى موريتانيا في مستشفى حمد ببوتلميت، والعاطلون سابقا في مؤسسة الشيخة موزا للتنمية الاجتماعية، وآلاف المحتاجين في قوائم جمعيات قطر الخيرية في نواكشوط واترارزة ومدن الداخل، هذا علاوة على المشاريع الكبرى مثل المشروع السياحي لشركة الديار القطرية، ومنتجع غانم بن سلطان الهديفي للفنادق والضيافة من فئة الخمس نجوم على شاطئ المحيط الأطلسي.
هذه مجرد أمثلة، ولكن الأرقام بالمليارات، ومنها مشروع الحديد الذي كان بأكثر من مليار دولار وتم الانسحاب منه في ظروف غامضة.
ثالثا: لا يليق بالعلاقات الموريتانية القطرية الأقدم بين علاقات موريتانيا وباقي دول الخليج العربي، أن تتراجع لهذا المستوى، حيث افتتحت موريتانيا أول سفارة لها في الدوحة عام 1974، وفي عام 1975 افتتحت الدوحة سفارتها في نواكشوط، ومنذ ذلك التاريخ وعلاقات البلدين في تطور مستمر ولم تشهد أي فتور رغم عاتيات الزمن وعواصف المحن. وقد تستغربون إذا عرفتم أن غالبية القطريين هنا بما فيهم النخبة، يتفاجأوون إذا سمعوا اثناء الحديث أن العلاقات بين البلدين مقطوعة، لأن هذا أمر خارج المتصور، ونحن أولى بهذا التصور. وتعلمون جميعا أن أي موريتاني في الخليج يقول أهله إنه في قطر، بحكم أقدمية العلاقة.
رابعا وأخيرا: نعلم جميعا أنه في الفترة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية شهدت العلاقات الموريتانية القطرية تبادل رسائل إيجابية أبرزها الاتفاقية التي وقعتها الاتحادية الموريتانية لكرة القدم مع نظيرتها القطرية، والزيارة التي قام بها رئيس الاتحادية الموريتانية السيد أحمد ولد يحيى للدوحة وأكد خلالها دعم موريتانيا لقطر في استضافتها لكأس العالم 2022.
ولا شك أنكم السيد الرئيس على علم بنقاش من نوع آخر وعلى مستوى عال، ولكن لأن منطلقه المساومة وبيع المواقف لم تر نتائجه النور .. ولأن العرب تقول: تجوع الحرة ولا ترضع بثدييها.. نأمل أن تعود مواقفنا لحضن مبادئنا.. وأن يتم تصحيح هذا الخطأ التاريخي بقرار شجاع وحكيم وعاجل.