صُدِمتُ أيَّما صدمةٍ عندما قرأت صباح اليوم في بعض المواقع الألكترونية نبأ وفاة أخي في الله رجل الأعمال أحمدُو الملقب ٱدُّ المعروف علما تحت اسم سيد أحمد ولد محمدْ ولد سيدي الأمين ولد بوبكر رئيس الجالية الموريتانية بالصين. كان ذلك في حادث سير مؤلم وقع حوالي الساعة 11 من ليلة البارحة في انواكشوط عندما كان يقود سيارته في حدود المطار القديم فانتصبتْ في طريقه عارضةٌ من الفولاذ فحاول أن يتجنبها فانقلبت السيارة فكان ما كان.
وقع الحادث بعد ساعات قليلة من فراغ المعني من إلقاء محاضرة في أحد مساجد انواكشوط يعالج فيها بامتِعاض خطورة انحسار حفظ القرآن الكريم لدى النشء في بلاد المنارة والرباط ويدعو إلى تكثيف الجهود من أجل مواجهة هذه الظاهرة بكل قوة وحزم.
تندرج تلك المحاضرة في نطاق نشاطاته الخيرية المتنوعة التي أتى خصيصا من أجلها منذ حوالي أسبوع مباشرةً من الصين وتتعلق بأمور دينية لا دنيوية منها بناء المساجد وتجهيزها.
ذلك أن الفقيد هو فعلا رجل أعمال كما ذكرت المواقع الإخبارية التي نعتْه ولكنها أعمالُ خيرٍ قبل أي شيء آخر. وكما أن له مكتبا تجاريا ناجحا في الخارج فإن له كذلك في الداخل مؤسسة غير حكومية نشِطة في الأعمال الخيرية وخاصةً منها تحفيظ كتاب الله العزيز. إنه معهد ورش لتحفيظ القرآن العظيم الذي أنشأه المعني منذ حوالي سبع سنوات ويقع مقره الرسمي عند الداية السادسة في مقاطعة عرفات.
عرفتُ المحيط الأسريَّ للفقيد منذ سنة 1992 ناحية مدينة لعيون في الحوض الغربي عندما كنت حاكمًا للمقاطعة وهو وسط متميِّز مفعم بالعلم والصلاح ولذلك عندما لقيته لأول مرة في مكاتب وزارة الخارجية والتعاون سنة 2009 وأنا إذْ ذاكَ أمين عام لم أستغربْ أبدا ما يحوزه من ثقة الناس في وسط عَصيٍّ فلم أتردد لحظة في أن أدعم وأتابع معه بإخلاص لدى السلطات المعنية) ولكن دون جدوى إلى ذلك التاريخ على الأقل (طلب اعتماده في منصب القنصل الشرفي لموريتانيا في مدينة "إيوو" في جنوب الصين.
كان يومها رئيس مكتب تجاري ناجح هنالك يكمن سر نجاحه في التمسك ببقية مما ترك الأقدمون من مبادئ الدين والقيم والأخلاق. وبموجب ذلك اكتسب الفقيد بإجماع ثقةَ نظرائه وزبنائه والناس أجمعين. وكذلك لم أستغرب مطلقًا عندما شرَّفَ بلادنا في مطلع شهر يناير الماضي بِتبوُّئهِ مرتبةَ الصدارة في مسابقة رجال الأعمال الأكثر ثقة في مدينة إيوو والتي شملتْ مئات المكاتب التجارية الأجنبية..
نسجتْ علاقات العمل بيني وبين ذلك الشاب أُلفة معيّنة، ومن فوائد الروتين الإداري إن كان له فوائد أنْ قد وطَّدَ صِلاتِنا طيلةَ مُقامه الوجيز في انواكشوط إذْ قد استغرقتْ متابعة الملف لدى الدوائر المختصة كل وقته وجلَّ وقتي وما حظيتْ بأقلِّ وقت المسؤولين المعنيين!
كان يزورني في البيت لِمامًا وفي جلساتنا الخصوصية عرفتُ أنه حاصل على شهادة سلك ثالث في مجال معتبر ولكنه آثر مباشرةَ الاتصاف بصفة صاحب الشهادة العامل بغيْر ما خوَّلتْه من علم كيفما اتفق، عن المرور حتما بمرحلة صاحب الشهادة الحاصل على العلم العاطل عن العمل به.
كان ذا خلفية دينية مُنطبعةٍ في سيره وسلوكه. وكان هادئا إلى أبعد حدٍّ ويكاد كلامه يكون موزونا بالعقل ولو شئتُ قلتُ مقفًّى على بحرٍ تفعيلاتُه الصدق والأمانة في صدر وعجز البيت والأسرة والمجتمع والوطن.
ينصت إليك بكل جوارحه أكثر ممَّا يتكلَّم لك وهو في كلامه معك عند الضرورة التي يقتضيها السياق أقلُّ إحراجا منه عند اتخاذه المبادرة في الخطاب.
ولا يقطع هدوءَه ولا انضباطَه المعهود في المجلسِ إلاَّ المسجدُ.. فإنه مهما بلغ اهتمامُه بالموضوع وأدبه مع الحاضرين فلا يستثيره إلا أذان المُؤَذِّنِ المُؤْذِنِ بانطلاق الصلاة التي يحرص على السير إليها مبكرا فيبادر ليُدرك الفضلين: فضل السبق وفضل تأديتها في الصف الأول .
بالرغم من أنني ما لقيت الفقيد قطُّ بعد ذلك التاريخ من سنة 2009 ولا انعقد بيني وبينه أي اتصال مهما كانت طبيعته، إلا أنني كثيرا ما كنت أتذكره. حتَى أمسِ القريب مر ذكره خاطفا في الخيال.
لقيتُ مؤخرا صديقا من التجار الموريتانيين ذوي الأسفار الدائبة إلى مدينة إيوو الصينية فسألتُه: هل تعرف سيد أحمد؟ فقال لي بداهةً: ما لقيته قط ولكنه مشتهر بالثقة في تلك الأصقاع! قلت والثقة رديفة للعدالة وهي في الرجال هنالك في عالم المال والأعمال قد تكون بعيدة المنال.
وبالمناسبة تذكرت والشيء بالشيء يُذكر هذه المسألة الفقهية الطريفة.
قيل إن القاضي الإمام ولد الشريف المجلسي رحمه الله صادف مرة رجلا يبحث عن من يظفر منه بتعديل شاهدٍ له يشترط القاضي تعديله في قضية نزاع شرعي شائك. سأله الإمام عن الرجل المراد تعديله ولما تعرف على اسمه تناول ورقةً بالسرعة التي كتب فيها تعديلا صريحًا لذلك الرجل وسلمه للطالب! عندئذ سئل الإمام: وهل تعرف الرجل؟ قال طبعًا لا ولذلك السبب قطعتُ بعدالته عن علمٍ لأنَّ غيرَ العُدول في وسطه الخاص يطير صيتهم في الآفاق فأعرفه كما يعرفه غيري!
ويسُوغ لي أن أقيس على مسألة تعديلِ شخصٍ مجهولٍ انطلاقًا من معيار كونه غيرَ مُشتهر بعدم العدالة في وسط محافظ أصلاً لأقرر أن صديقي التاجرَ المَسُولَ وهو مجلسيٌّ كذلك هو حريٌّ بالأحرى بتعديل مجهول لديه يشتهر بالثقةِ بين الناس في وسط تختلط فيه جميع الجنسيات يُفترض أن يكون أقلّ محافظةً من الأول!
وأواصل في ذات السياق لأذكر بأنه قيل إنَّ شيخنا كرَّاي ولد أحمد يوره رحمه الله شهد مرةً في موضوع يجهل حيثياته ولكنه يعتمد فيه على شهادةٍ صريحةٍ مِنْ من يعتقد فيه الصدق مع الله ونفسه والناس.
وعلى ذلك الأساس أشهد قياسا على فعل كل من القاضي المجلسي وابنِ عمِّنا وشيخنا العالم العاقليِّ واعتمادا على شهادة صديقنا التاجر المجلسي أنَّ المرحوم سيد أحمد ولد سيدي الأمين كان من أمثل قومه هنالك كما أعلم علمَ اليقين أنه كان من أمثل قومه هنا.
وعليه فإنني أعزِّي فيه من صميم قلبي نفسي وأسرته وذويه ومجتمعه وسائر الموريتانيين وعلى رأسهم أعضاء السفارة الموريتانية في الصين وجميع أفراد الجالية الموريتانية هناك.
أعزِّي والديه التقييْن النقييْن محمد ولد سيد الأمين والسالكه فال بنت الديْ الذيْن ليس استقدام الفقيد لهما من أكْجرتْ قبل يومين لرعاية مصالحهما عن قرب إلا دليل آخر على بره بوالديْه يجعله الله في ميزان حسناته إن شاء الله.
أعزِّي زوجته الصابرة سليلة الصالحين لالَّه بنت سيد المختار ولد عبد الله وابنيْها وبناتها الثلاث.
أعزي كذلك إخوته ذكورا وإناثا وأعزِّي أهله وذويه في كل من أكَجرْتْ والإغاثة وسائر المدن والقرى في ولاية الحوض الغربي.
أما الوالد محمد ولد سيد الأمين فأخصه بأن أستدعيَ فيه ما هو معهود به من قوة الإيمان والرضى بقضاء الله وقدره وذائقة الأدب وأخاطبه فأقول كما قيل من قبل:
اصبرْ نكن بك صابرين فإنما *** صبر الرعية عند صبر الراسِ
خيرٌ من العبَّاس أجرك بعده *** والله خيرٌ منك للعبَّاس
هذا وأذكر بأن الفقيد تم تجهيزه والصلاة عليه في مسجد الرابع والعشرين ودُفن في مقبرة لكصر في وسط العاصمة.
وأختم فأقول: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت وإذا دُعيت به أجبت أن ترحمه وتغفر له وتسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وأن تُعظِمَ أجر أهله فيه وأن تلهمهم الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.