يكفي التجارة شرفا وسمو منزلة خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الشام، مع ما ورد في فضلها من نصوص وآثار، وما خص الله به التجار في الصدر الأول من فتح للأمصار سلما، وسياحة في الآفاق لنشر دين الله عز وجل، وإسهام سخي في النفقات العامة لدولة النبوة، فحملوا - بذلك - الكَلَّ وأعانوا على نوائب الحق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".
لقد كان الجمع بين العلم والتجارة شائعا ذائعا في تاريخ المسلمين، فضمن ذلك للمصلحين الكسب الطيب، والاستغناء عن الناس، والبعد عن السلطان، فحفظوا استقلالهم وكانوا اليد العليا، يعطون ولا يأخذون، يسهمون في رفاه الناس، ويسعون في صلاح الدين والدنيا، وكان منهم الخلال والبزار والجزار والحذاء والخياط والعطار والطحان والقطان والقصار والبناء والنجار، ولإدارك عمق تأثير ذلك في حفظ الدين وخدمة العلم يكفي الرجوع لكتاب (مهن الفقهاء في صدر الاسلام وأثرها على الفقه والفقهاء) للدكتور محمد التميم، أو (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة) لعبد الباسط الغريب
.
ولم تكن صحراء الملثمين استثناء، فقد حمل إليها التجار المسلمون الأُول مشاعل الهداية قبل أن تطأها سنابك خيل الفاتح الفهري، حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، كما نشطت حركة (التجارة / الدعوة) بعد أن تفتقت عبقرية نجله عبد الرحمن بن حبيب عن حفر الآبار على طول طريق الصحراء، فكان لذلك دوره الكبير في تعميق الإسلام في النفوس، ودخول الناس في دين الله أفواجا، حتى خرجت من هذه الأرض القاحلة شجرة المرابطين الوارفة، فتفيأت ظلالها بلاد المغرب والأندلس.
وحتى لا نذهب بعيدا فنتيه في حقب التاريخ ومهامه الصحراء، نكتفي - هنا - برصد مشاهدات عايشناها في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، حيث الانتشار اللافت لظاهرة "المتجر / المكتبة" و"المتجر / المحظرة" في قريتنا الصغيرة الوادعة، فقد كان (التاجر / الشيخ) في "سوق انبيكة / تكانت" يخصص ركنا من المتجر لكتبه، ويكثر العكوف عليها، وقد يجتمع إليه في الغداة والعشي أصفياؤه، فينتقي لهم من أطايب العلوم ولطائفها، لقد كانوا رجالا رساليين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الحق وخدمة الخلق.
ومن بين أهم المعالم العالمة في القرية متجر آل عبد الودود الشرفاء، الذي يعتبر - بحق - مركز الإفتاء ومجلس القضاء، وقد كان يديره - حينها - إمام الجامع العتيق فضيلة الشيخ سعدنا عبد الودود حفظه الله، وكان يتردد إليه بين الفينة والفينة فضيلة الشيخ الوالد القاضي أحمد عبد الودود رحمه الله، فينجفل إليه الناس لحل المشكلات والفصل في الخصومات، فقد كان قاضي صلح لا يرد له قول ولا يراجع في شفاعة، وكان فقيها عاقلا حصيفا مهيبا، جم التواضع حسن التأله، قليل الكلام عميق الأثر، وربما لاطف جلساءه بشيء من مباح المزاح.
وعند بوابة القاعدة العسكرية تُواجه القادمَ من "علك شربة" أبواب المتاجر مشرعة على ساحة الاستقلال، وكان وسطها (متجر / ومكتبة) الشيخ السني سيد محمد ولد عبدي ولد امبي رحمه الله، وقد عرفته عن قرب، فكان زاهدا في الدنيا الزائلة، دائم الذكر جم التواضع محبا للخير، وكان رحمه الله بعيدا عن التعصب والجمود، مناصرا للدعوة محبا للسنة حريصا على الاتباع، مطلعا على مذاهب الفقهاء مؤثرا للدليل، كثير الإجلال للإمام بداه، متناغما مع دعوته الإصلاحية، وفي مكتبته طالعت بعض كتب الإمام رحمهما الله، وكان متعدد القراءات ممتد الأفق، مستحضرا لاختيارات شيخ الإسلام، كثير التشجيع للشباب والاستماع لحديثهم، وقد قال لي مرة ما معناه: ليس الزمان زماننا معشر المسنين.. أنتم من يستطيع مخاطبة الناس ويملك لذلك أدواته، ورغم الجد والتشمير واغتنام الأوقات في الصالحات كان الشيخ اجتماعيا، طيب النفس، دائم البشر، ذا دعابة مع الصغير والكبير، و لا أذكر أني رأيته غاضبا، ولا ندت منه كلمة لا تليق بمكانته.
وكان لشقيقه الشيخ أحمد ولد عبدي رحمه الله متجر ومكتبة غنية، وكان عالما صالحا محبا للسنة متبعا للراجح، وربما نسبه أقرانه للشافعية، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، ميالا للعزلة، لا يرى لنفسه مكانة، ولا يكاد يقبل التقدم لإمامة المصلين، وقد عرف عن مجتمع الشيخين الطهر والعفاف واحتجاب النساء عن الرجال.
ولا أزال أذكر التاجر الشيخ الوقور المتقلل محمد الأمين ولد الدِّين وقد نذر حياته للقرآن الكريم، فلا تراه إلا مستمعا أو مصححا أو تاليا، وفي نفس المحل التجاري عملت في الإجازات المدرسية - بعد ذلك - سنين عددا، مع فقيدنا سيد محمد ولد أهلي رحمه الله، الذي أقام سنوات بمحظرة إمام العصر وشيخ الشيوخ بداه البصيري رحمه الله، وكان حريصا على سنة حسنة تواضع عليها تجارنا، حيث يهتبلون فرصة ترددهم إلى العاصمة للشراء في الجلوس إلى الإمام، فيستفتونه ويراجعونه في المشكلات، وربما أحضروا بعض مؤلفاته وإهداءاته، وساعد في ذلك قرب مسجد الإمام ومجلسه من المخازن التجارية الكبرى ومحطات النقل.
وإن نسيت فلن أنسى الشيخ الوالد بيرم الخديم رحمه الله، فقد كانت له ورشة للصناعات التقليدية الصغيرة في بيته، يجلس إليها معظم وقته فلا يشغله ذلك عن الاستماع لطلابه، وقد درسني في الصغر فما رأيت من يدانيه في الحفظ والاستحضار، وربما جمع مهام كثيرة في آن واحد، يعمل في النجارة ويصنع الشاي ويصحح لأحد طلابه بأذن، ويرصد بأذنه الأخرى عشرات الطلاب، فيسل الخطأ من بين الأصوات المتداخلة كما تسل الشعرة من العجين، ولأنه كان سمحا كريما يبالغ في التحبب إلى طلابه، ويتحفهم بقطع السكر والحلوى وجيد التمر كان أكثر معلمي الكتاتيب طلابا وأبقاهم أثرا، ومن نفس الأسرة الطيبة كان السيد ولد الخديم حفظه الله يتخذ من متجره الواقع على العدوة الشمالية لبطحاء "ولد أكران" محظرة قرآنية، فجزاه الله خيرا وتقبل منه.
لقد انحسرت هذه الظاهرة الجميلة مع رحيل الكبار وأفول كثير من قيم البذل والعطاء، فهل إلى عودة التجارة الرسالية العالمة من سبيل؟!.
اعتذار: حديثي هنا عن بعض الراحلين لا كلهم، ولم أذكر الأحياء إلا عرضا، فظروف الغربة تحول دون استئذانهم قبل النشر، ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.