في إطار السعي إلى تحقيق ما دعاه أبو يعرب المرزقي "تمسيح الإسلام" -أي صبغه بالمنظور المسيحي- يميل العلمانيون العرب إلى تسويق جوانب الخمول والدروشة في تاريخ المسلمين وواقعهم. وقد كان الفيلسوف الشاعر محمد إقبال من أوائل المعاصرين الذين انتقدوا هذه الروح الكاسدة التي يراد إلصاقها بالإسلام، بعيدا عن منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقد وصف أبو الحسن الندوي لقاءً ممتعا له مع إقبال فقال: "وتطرَّق الحديث إلى تواجد بعض المتصوفين وطرَبهم للسماع، فقال [إقبال]: إن الصحابة كان يتملَّكُهم الطرب والاهتزاز والأرْيَحية على صهوات الجياد في ساحة الجهاد." (الندوي، روائع إقبال، 7).
وقبل إقبال بعدة قرون لاحظ الفقيه السياسي الغرناطي ابن الأزرق الفارقَ السياسي بين الملة الإسلامية وغيرها من الملل، حيث شؤون السلطة في الإسلام جزء من البناء التكويني ابتداء، بخلاف أديان أخرى كان اهتمامها بشؤون السياسة تطوُّرا لاحقا وعرَضيا في مسارها التاريخي، لا عنصرا بنائيا في تكوينها الأصلي، فالسياسة أمر جوهري من صميم ملة الإسلام "ولا كذلك غيرُها من الملل... ووجودُه فيها إنما هو بالعرَض." (ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، 97.)
وما ذكره ابن الأزرق يَصْدق على البوذية والمسيحية أساساً، وإلا فإن الإسلام لم يكن أول ديانة توحيدية ذات بعد سياسي، بل وجُد من أنبياء بني إسرائيل قبل الإسلام من كانت رسالتهم متضمنة بُعداً سياسيا وعسكريا صُراحا. وقد اتفق على ذلك القرآن الكريم والعهد القديم. ومن هؤلاء الأنبياء موسى وداود وسليمان ويوسف عليهم السلام. فالإسلام هو وارث تاريخ عريق من المزج بين النبوَّة والسياسة لدى الشعوب السامية، فهو ليس بِدْعاً في ذلك، أما المسيحية فيمكن اعتبارها بدعة في هذا الباب، واستثناءً في تراث النبوَّات السامية، وليست القاعدة فيه.
وقد أحسن ابن تيمية إذ بيَّن -في مقارناته للإسلام مع الديانتين اليهودية والمسيحية- طبيعة الشمول واستيعاب جميع جوانب الحياة التي اتسم بها الإسلام، فقال: "موسى جاء [في شريعته] بالعدل، وعيسى جاء بتكميلها بالفضل، وهو صلى الله عليه وسلم قد جمع في شريعته بين العدل والفضل." (ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 2/23). ولعل ابن تيمية هنا يستلهم الآية القرآنية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (سورة النحل، الآية 90).
وقد ترتب على هذا الجمع بين العدل والإحسان في الإسلام ضرورة الجمع بين الحق والقوة، بين الدين والدولة. فالدولة ضرورة لنقل أحكام الإسلام العملية -ذات الصلة بحقوق الناس- من دائرة الالتزام الأخلاقي إلى دائرة الإلزام القانوني، والدين ضرورة للدولة لتغذيتها بالشرعية السياسية التي تجعل طاعة الناس لسلطتهم نابعة من اقتناع لا من إكراه.
لكن الساعين إلى "تمسيح الإسلام" -من أمثال وائل حلاق- حريصون على تسويق نوع من الإسلام المنزوع الدسم، الذي لا ينصر مظلوما ولا يردع ظالما، ولا يعبِّر عن أصالة الرسالة الإسلامية ووظيفتها التحريرية، بل هو مجرد تلفيق من مواريث الورع البدعي والزهد الزائف الذي تسرَّب إلى الثقافة الإسلامية من الرهبانية المسيحية والبوذية. فقد تطوَّع وائل حلاق بتنصيب نفسه منظِّراً لمستقبل الإسلام وإسهامته في مصائر البشرية.
لكن الروح المسيحية والاصطلاح المسيحي خذلاه في نهاية المطاف. فهو حين يقول مثلا: "كل الأشياء في العالم تاريخية، بما في ذلك الله نفسه، بمعنى من المعاني" (الدولة المستحيلة، 63) أو يقول: "في هذه المعادلة الفقراءُ جزءٌ أصيل من الله، وهو جزء أصيل منهم" (الدولة المستحيلة، 284)، فهو إنما يستبطن المنظور المسيحي في بعديْه اللاهوتي (التجسُّد) والاجتماعي (الرهبانية)، في الوقت الذي يراه فيه المغفَّلون من المسلمين رافعا لراية الإسلام، ومنافحا عنه.
وقد أقرَّ وائل حلاق بأن التجربة العلمانية في العالم الإسلامي كانت تجربة بائسة. فكتب "إن مشروع العلمنة هذا جُرِّب، وجرى تبنِّيه في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين. لكن ثمة أدلة طاغية على فشل هذا المشروع بدرجة كبيرة. كما يشهد بذلك -علاوة على ظواهر أخرى- إخفاق الناصرية والاشتراكية، والصعود اللاحق للإسلام السياسي، بعد ستينيات القرن العشرين. " (الدولة المستحيلة، 47).
ومع ذلك يصر ُّحلاق على تسويق العلمانية بنكهة مسيحية، وبطريقة ملتوية اعتادها في حديثه عن كل ما يتعلق بحاضر الإسلام ومستقبله. فهو يختزل رسالة الإسلام ودوره في مستقبل البشرية، في دروشة أبي حامد الغزالي من الأقدمين، وطه عبد الرحمن من المعاصرين، (عن الغزالي انظر "الدولة المستحيلة"، ص 235- 248، أما طه عبد الرحمن فلم يتوقف عنده حلاق، إلا أنه أشاد بأربعة من أعماله في هامش الصفحة 295).
والغريب أن أبا حامد الغزالي وطه عبد الرحمن عاشا في لحظتين متشابهتين، اتسمتا بالتشظيِّ الداخلي والاختراق الخارجي لقلب الإسلام، من طرف مجتمعات معادية ذات خلفية مسيحية (الفرنجة في عصر أبي حامد الغزالي، والأوربيون والأميركيون والروس في عصر طه عبد الرحمن)، وأن كلا منهما انسحب من التدافع الذي يوجبه القرآن، ويقتضيه الواجب الأخلاقي، واستغرق في عالمه الذهني وتجريداته الروحية، وكأن الأمة التي يذبحها عدوُّها من الوريد إلى الوريد لا تعنيه في شيء.
فقد اقتحم الصليبيون القدس فأبادوا سكانها، سوى بقية باقية لجأ بعضها إلى دمشق، وأبو حامد الغزالي منعزل، غارق في تأملاته، في زاوية الجامع الأموي بدمشق. وثارت ثائرة المسلمين في بلاد الشام والعراق وغيرها، وألف العالم الدمشقي علي بن طاهر السلمي كتابا في فضائل الجهاد لاستنهاض الهمم، وقدم رؤية عسكرية وسياسية للنهوض، وسرى الألم في جسد العالم الإسلامي بكل أرجاء الأرض.. كل ذلك والغزالي منعزل في الجامع الأموي، وكأن الدنيا بخير! وحين خرج الغزالي من عزلته وعاد إلى بلدته في قلب بلاد فارس، لم يرفع رأسا بكل ما حدث، ولا تحدَّث عن الحروب الصليبية ولا عن الجهاد حتى توفي.
فإلى ابن طاهر والهروي وغيرهما من ذوي الضمائر الحاملة لهمِّ الأمة يجب إرجاع الفضل في "ظهور جيل صلاح الدين"، لا إلى الغزالي ومن كان على شاكلته من المنعزلين. ولعل العلامة الأزهري المعاصر محمد يوسف موسى لم يجانب الصواب حين وصف في كتابه (فلسفة الأخلاق في الإسلام) رؤية الغزالي الأخلاقية، فقال: "إن الغزالي لم يكن -وهو يكتب في مذهبه الأخلاقي- يعنيه الصالح العام.. وإن مذهبه ليس مذهبا يقوم عليه الاجتماع، وتسعد به الأمة.. وإن أسعد أيام أمم الغرب التي تتقاتل في سبيل استعمار أمم الشرق، وخصوم الإسلام وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، لهو اليوم الذي يرون فيه المسلمين آخذين -لا قدر الله تعالى- بمذهب الغزالي، فيجعلون الغاية التي عيَّن غايتَهم، والمنهجَ الذي رسم منهاجهم، فيصيرون عدما أو كالعدم، في هذه الحياة التي لا ترحم الضعيف، والتي تذكِّرنا بقول الشاعر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتَّقي صولة المستأسد العادي"
وما قاله محمد يوسف موسى عن الغزالي يصلح قوله عن طه عبد الرحمن اليوم. فهو غارق في التنظير لمذهب معاصر في التصوف السياسي، يهرب من الواقع بدل مواجهته، ويتجاهل الطبيعة التدافعية للسياسة، مع إغراب في الاصطلاح، وترف نظري، ينتهي بتسويغ الأمر الواقع في نهاية المطاف. ونقطة الضعف الأساسية في نظرية طه عبد الرحمن السياسية هي أنه يتجاهل مبدأ المدافعة الذي هو العاصم من الفساد بنص القرآن الكريم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} (سورة البقرة، الآية 251)..
ويصوغ -عِوَضاً عنه- مبدأً غريبا سماه "الإزعاج الروحي"! وهو إزعاج يحلم صاحبه أن يغير الواقع السياسي بعيدا عن التدافع العسكري الذي يدعوه "العمل الاضطرابي"، وبعيدا عن التدافع المدني الذي يدعوه "العمل الانتخابي" (روح الدين، 309)، ويسلك مسلك التوسل الذي ينتهي تسولاً في نهاية المطاف، فـ"الإزعاج توسُّل بالوجدان" (طه عبد الرحمن، روح الدين، 289).
ويقف طه على الحياد في المعركة الدائرة بين الحكام المتحكمين في رقاب الشعوب ومعارضيهم من الساعين لتحريرها، ويعتبر الطرفين ساعييْن إلى "التسيُّد" والحكم بالقهر، في سلبية أخلاقية كاملة، لكن باسم الأخلاق! وكأنه لا يدرك أن غاية الثورات هي تحرير الناس لا حكمهم، وهذا هو الفرق الجوهري بين الثورة والانقلاب. والقرآن والتاريخ يشهدان أن السياسة مواقفُ ومدافعةٌ لظلم الظالم، لا مواعظُ ومراهنةٌ على يقظة ضمير الحاكم. وليس من ريب أن الشعوب أدركت هذا بطبيعتها الإنسانية وفطرتها الإسلامية، ولذلك خرجت تصدح: "الشعب يريد"! دون توسُّل ولا تسوُّل.
وللإنصاف فإن أبا حامد الغزالي وطه عبد الرحمن لا ينقصهما الذكاء والفطنة، فهما من ألمع علماء الإسلام ومفكريه ذهنا، وكلاهما رجلٌ يحب الله ورسوله. إنما تكمن مشكلتهما في الاندراج ضمن ثقافة دينية مغشوشة، منبتَّة عن النبع القرآني والمنهاج النبوي، وهي ثقافة الدروشة والخمول الموروثة من الرهبنة المسيحية والبوذية. فهل كان صدفة أن اختار وائل حلاق من الأقدمين أبا حامد الغزالي، ومن المعاصرين طه عبد الرحمن، ليسوِّقهما مثالاً لرؤية الإسلام الأخلاقية التي ينبغي أن تسود؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون جزءا من (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) إذا استعملنا عنوان كتاب مالك بن نبي؟!
يستطيع حلاق ومُريدوه، ومريدو مُريديه، اتهام منتقديهم بالطائفية والتعصب، فقد اتهم حلاق الأستاذ البحاثة المصري الأميركي محمد فاضل -أستاذ التشريع الإسلامي بجامعة تورنتو- بأنه صاحب "نظرة متعصبة وضيقة وقصيرة الأمد" (الدولة المستحيلة، 23) لمجرد أن الأستاذ فاضل أوضح ببراعة العالِم المتكِّمن جوانب الخلل المنهجي والأخطاء العلمية في كتاب حلاق عن (الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات)، مع التزام بالأدب الجمِّ والثناء الجميل المُجامل لحلاق. لكن سلاح الاتهام لن يغيِّر من واقع الأمر شيئا، وهو أن وائل حلاق جزءٌ من السعي الدائب لترويض الإسلام، وتحويله دينا منزوع الدسم، يحمل منظورا مسيحيا أو بوذيا، لا ينصر مظلوما، ولا يردع ظالما.
ومهما يكن من أمر، فسيظل الضمير المسلم يرى حقيقة الإسلام غضَّةً نابضةً في القرآن الكريم، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين "كان يتملَّكُهم الطرب على صهوات الجياد في ساحة الجهاد"، لا في حياة درويشٍ غارقٍ في عالم الصمت والتأمل والأحلام، أو في مواقف جبان يتستر وراء التفلسف وطول اللسان.
(يتواصل)