ينتمي كل مواطن موريتاني لقبيلة ينسبه الناس إليها ويتواصل مع أفرادها ويقبل طائعا تحمل مسؤولياتها والمشاركة في أعبائها وعندما يتقاعس شخص عن التزاماته القبلية فإنه يعرض مكانته ومصالحه المعنوية وحتى المادية للخطر. وكثيرا ما كان الولاء القبلي على حساب الدولة التي يثرى بعض أبناء القبائل بالتمالؤ والتحايل على ممتلكاتها ومزاياها وكثيرا ما تهرب المواطنون عن دفع مشاركاتهم في تسييرها (الضرائب)... وبينما يفخر الكثيرون بانتمائهم القبلي يتنكر البعض للدولة ويحسب أن الله ابتلاه بأن قدر له أن يكون أحد مواطنيها.. ولو أنصف الموريتانيون وراجعوا أنفسهم لوجدوا بأن دولتهم تقدم لهم مزايا عظيمة لا تقاس بمردودية القبيلة ولدفعهم ذلك للتشمير عن سواعد الجد للمساهمة في تنمية كيانهم الجامع الذي يؤويهم ويجدون فيه ما سيعييهم الحصول عليه إن تشرذم واضمحل ولن يعدموا منافع أفضل إن هم عملوا على الرفع من شأنه. ولئن وجد البعض سبيلا للسفر والإقامة في الخارج فلا بد أنه يهتم بحال أقاربه الذين بقوا في البلد: فالدولة تبسط الأمن للجميع وتوفر التعليم والصحة والشغل في مختلف مناحي الحياة وفي كافة مناكب البلد.. حتى عندما يهم أحد المواطنين بالمغادرة فلن يستطيع دون المرور بمصالح الدولة واستصدار جواز سفر يجوب به مشارق الأرض ومغاربها.. ولا ينبغي أن نجادل في مكانة جواز سفر بلدنا لأنه قدرنا ومن يبرأ من أمه لأنها متوعكة أو معدمة!! أليس الأنسب أن يعالجها ويغنيها حتى تجد مكانتها اللائقة؟ صحيح أن ثمة نواقص كثيرة فدولتنا لا توفر لنا ما تيسره بلاد أخرى لمواطنيها ولكن يجب أن نستحضر بأن مسؤولية ذلك تقع علينا لا على الدولة.
- 1 -
تعرف الدولة بأنها مجموعة من الأفراد يعيشون ويمارسون نشاطهم انطلاقا من إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي جامع يتولى شؤون الدولة ويشرف على الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها.
ومع التطور انشطرت السلطة إلى ثلاث سلط مختلفة: تشريعية تصادق على القوانين وتضع النظم وقضائية تفصل النزاعات وتقول كلمة الفصل وسلطة تنفيذية تفرض احترام القانون وتمد يد المساعدة لتنفيذ قرارات القضاء كلما طلب منها ذلك.
- 2 -
ولئن كانت القبيلة نظاما قديما عفا عليه الزمن وأصبح يعيش مستترا على هامش الحياة المدنية إلا أنه يعتمد على الدولة التي تتوفر على وسائل الحماية والإلزام ويتقاطع النظام القبلي مع الدولة في التنظيم حيث يجتمع أفراد كل قبيلة اجتماعا تأسيسيا لوضع النظام العام (الدستور) وتقاسم المسؤوليات ويجتمعون في دورات عادية لتدبير الموارد المالية (قانون المالية) التي تتحصل غالبا من المشاركات الشهرية التي يدفعها أبناء القبيلة وكثيرا ما كانت متفاوتة حيث تراعي المستوى المادي للمشارك فالموسرون، الذين تكون أعدادهم محدودة في الغالب، يلزمون بدفع مشاركات معتبرة، والمتوسطون، كثيرو العدد، يلزمون بمبالغ تناسب قدرتهم أما العاطلون ومحدودو الإمكانات فينصفهم النظام القبلي ويعفيهم من الأعباء وكثيرا ما أصر بعضهم على دفع مشاركته تجنبا لحرج احتسابه في عداد "المعذورين".. وعندما تتطلب الظروف عقد اجتماعات استثنائية يتواعد أبناء القبيلة مكانا معينا يجتمعون فيه ويعبرون عن التضامن وفيهم من يبذل الغالي والنفيس.
وعلى الرغم من الآثار الاجتماعية الإيجابية للقبيلة كثيرا ما خامرت المتعصبين من أبنائها حمية جاهلية لا تناسب الحياة في ظل الدولة وربما بلغت حد اتهام أصحابها وإدانتهم بالعقوبات المقررة في نصوص القانون.
- 3 -
وبالمقارنة بين الدولة والقبيلة نجد أنهما تلتقيان في اعتمادهما على المورد البشري فالشعب والسلطة ركنان لهذه وتلك.
ونظرا لأهمية الكيان الجامع أجازت قوانين جل الدول نزع الملكية الفردية من أجل المنفعة العامة وبالمقابل انتبهت المجموعة البشرية إلى خطر المتربصين الساعين للاستحواذ على موارد الدولة بطرق غير مشروعة ولهذا السبب وضعت اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد سنة 2003 وانضمت إليها موريتانيا سنة 2006 وتنفيذا لها وضع القانونان 2015-40 و2016-14 المتعلقين بمحاربة الفساد.
- 4 -
وجملة القول أن الدولة (مثلها في ذلك مثل القبيلة) تقوى بتكاتف جهود مواطنيها وتنظيمهم وتضعف بتخاذلهم وتضمحل عندما تكون مصالحها الحيوية عرضة للتخريب الذي يترتب على تعمير ذمم الخواص من ذمتها ولا غرو إن تعطلت مصالح الدولة عندما يوكل أمرها إلى أطر يكنون الولاء للقبائل ويغلبون مصالح مجموعاتهم على مصلحة الدولة ولذلك يجب على المواطنين الرشداء حماية المصالح العامة والتصدي لمن يستهدفها أيا كان والسعي لأن يوكل تسييرها لمواطنين أكفاء نزهاء يحرصون على أن يظلوا على مسافة واحدة من الجميع. ويتعين على المواطنين المتحكمين في النظام القبلي أن يدركوا أهمية كبح جماحه وتجنيده لخدمة المصلحة العامة وتقيده بالحدود التي رسمها القانون لأن تغليب المصالح الخاصة على المصلحة الجامعة وخيم العواقب وينم السعي لإضعاف الدولة وتقوية القبيلة عن ضعف الحيلة وقرب النظر فعندما يرتفع ستر الدولة ويخلو الجو للقبائل ستتنازع لا محالة وقد يؤدي ذلك للتناحر ولانعدام الأمن يتفرق الجمع وتغلق المدارس والمستشفيات وتتعطل المصالح المدنية والتجارية.. عندها يخلو الجو لقطاع الطرق ويسود الرعب والخوف كما نشاهد في بلدان شقيقة. ولضمان المصلحة يجدر بأبناء القبائل أن ينبذوا كل مساس بمصالح الدولة وأن يتواصوا على مناصرتها في الحرب ضد الفساد الماحق لأن ضعفها وتعطيل مصالحها مؤذن بخراب العمران واضمحلال الكيان.
لقد اختطت الدولة الموريتانية، في العقود التي تلت الاستقلال، استراتيجية مدروسة مكنت من تراجع النعرات القبلية والجهوية والعرقية ولكن ذلك التوجه ما لبث أن تقهقر بفعل استخدام الفرقاء السياسيين للقبائل في صراعهم الذي وصل حد تسخير دور الشباب لأنشطة التكتلات القبلية التي تمكنت من إذاعة أخبار أنشطتها في وسائل إعلام الدولة.. ومن المبشر أن السلطات الحالية صححت المسار حيث أصدر وزير الداخلية، في شهر فبراير 2020، تعميما للولاة والحكام يمنع الترخيص للأنشطة القبلية.
إن حق الاجتماع مضمون وبموجبه يحق تنظيم اجتماعات خيرة "مستورة" تهدف للمعروف: تقوم بإصلاح ذات البين وتنظم مساعدة المحتاجين وليس للقبائل أن تتظاهر علنا ولا أن تصدر بيانات عامة أحرى أن تعلن الوقوف مع خصوم النيابة العامة الذين يحق لهم أن يعاملوا بعدالة وأن تحترم حقوقهم المكرسة في المساطر القانونية وأن يوفر لهم الدفاع الذي يرتضونه.. وربما تساءل البعض عن السند في حظر الأنشطة العلنية للقبائل والجواب هو أنها كيانات غير مرخصة ولا يعترف بها القانون.