من خلال فتح ملفات العشرية الماضية نتجاوز جميعا الحاجز النفسي لتنصل الموظف العمومي من مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وإهمال الرقابة البرلمانية والحكومية، ونبدأ عصرا جديدا لا بأس بتسميته؛ عهد المساءلة.
المساءلة ليست هي المحاسبة؛ المساءلة الاستخبار عن الشيء، والسؤال عن ما تم القيام به، وهي لا تعني بالضرورة العقاب، بل المتابعة والمناقشة لما يجري بهدف تبادل الآراء واستجلاء المواقف، وصولا للمكافأة والتقدير، أو المحاسبة والعقاب.
وإذا كان العشرات من موظفي إدارتنا السامين بكل أسف يقصرون في أداء وظائفهم، أو لا يؤدونها على الوجه الأكمل، فإن المئات من موظفينا البسطاء، وبعض الموظفين السامين يخدمون كجنود مجهولين بتفان وإخلاص ومثابرة وعبقرية قل لها نظير.
هذا الصنف الأخير على ندرته لا يجد نصيبه من الأضواء، ولا أحد يهتم لما قدم من جهد، وبالتالي لا ينالون في الغالب أي مكافآت.
ما دمنا ناكرين لجميل هؤلاء ونضع الجميع في سلة واحدة؛ هي سلة التخوين، فنحن نشجع التهاون في أداء مهام الواجب العمومي، ولا نحفز السلوك الإيجابي لبذل المزيد من الجهد والإيجابية.
إن أموالنا التي تبدد في الفساد؛ وتقدر بعشرات المليارات من الأوقية سنويا؛ هذه الأموال كان بالإمكان استخدام نسبة بسيطة منها كتعويضات مستحقة، ومزايا ومكافآت، مع تشديد الرقابة الإدارية، وتعزيز دور القضاء، لضمان جودة العمل، ونزاهة الموظفين وتشجيع التنافسية.
في مأثورنا الشعبي أن أكره ما يكره معد الشاي الحاذق المتقن لصنعته النديم اللا مبالي الذي يتعاطى الكؤوس؛ كؤوس الشاي طبعا، يتعاطاها في صمت وبلاهة ولا مبالاة دون تعليق استحسان، والشيء بالشيء يذكر.
من منا لا يعرف في أروقة إدارتنا أطباء، ومعلمين، وأساتذة، ودكاترة، ومدراء، ووكلاء إدارة، وعمالا عاديين خُلَّص وأكفاء، ومشهود لهم في الوسطين الوظيفي والاجتماعي بنزاهة اليد والاستقامة والترفع عن الشوائب، ومع ذلك لا تسمع لهم ولا تحس ذكرا.
هذا الصنف مغيب عمدا عن التوشيح، والتقدمات، والمكافآت، لكن حظهم من سخط مرؤوسيهم، وتهميشهم، واحتقارهم ينالونه كاملا غير منقوص.
إن مكافأة من لا يستحق تشجيع للفساد، بل هي أشد ضروبه شذوذا، وتعتبر إخلالا بميزان الحكامة الرشيدة، وتهميشا وتحطيما لمعنويات المخلصين من موظفي الشأن العام، فمتى نتوقف عن محاباة المفسدين؟ متى تكون الحوافز حكرا على مستحقيها دون غيرهم؟ متى نكسر الروتين الإداري، والقواعد البيروقراطية التي تجذرت في لا وعينا حتى صارت سُننا متبعة ومألوفه؟
نعول كثيرا على القيادة الجديدة من أجل إحداث قطيعة تامة مع ترسبات الماضي، ومسلكياته الضارة؛ كشخصنة الأمور، واحتقار القانون، وذلك من أجل إقامة دولة العدل والحقوق والحريات.
هذه آمالنا وأحلامنا فإن تحققت - وهي ممكنة ومشروعة - فحالنا كما قال العلامة محمد ولد أحمد يوره: فرحنا وأظهرنا السرور وصرحنا، وإن لم تتحقق لا سمح الله ما كنا ركوبا ولا طحنا!