يوشك أن ينقضي أسبوع كامل مذ غادرت دنيانا الفانية يا أنيس الفؤاد وحبيب القلب، أسبوع بدا كما لو كان أكثر من أسبوع بل ومن شهر وسنين... يوشك أن ينقضي أسبوع مذ تعجلت عنا ونفد صبرك عن لقاء الأحبة محمدا وصحبه فأسلمت الروح لباريها وذهبت خفيفا تظلك بسمتك الحانية ويتقدمك سمتك المهيب... أسبوع سال به حبر كثير وأدمع أكثر، وما دري العلماء والفقهاء والخطباء والكتاب والوعاظ والوجهاء والشعراء والمغنون والحانون والمعزون والمحبون أنهم في كل ما ذكروا لم يصلوا بعد لجزء من ما كنته يا "أدٌ"...
لقد كانت تصرفاتهم أقوالا وكانت تصرفاتك أفعالا... وشتان ما بين الأقوال والأفعال...
أسبوع كامل يا "أدٌو" ولا تزال لحظة سماعي لخبر رحيلك طاغية علي كل شيء في ذهني... كان الجو باكرا وهادئا بعض الشيء في مدينة "كوانجو" التي تعرف.. كان صوت محدثي في البدء واضحا حين سألني وبدون مقدمات إن كنتَ حقا قد غادرتَ وفارقت هذه الحياة...؟ لم أعد أسمع بعد ذلك الكلمات بذات الوضوح الذي كنت أسمعها به... بل تستطيع القول إنني لم أعد أسمع الأمر البتة...
هرعت أفتش في الهاتف أقلب الرسائل والمكالمات الفائتة فكان ما لم أتوقع أو أنتظر يوما... كان صوت أحد الأصدقاء وهو يحدث بالأمر في وضوح على إحدى المجموعات الخاصة... وفيما أنا بين الحياة والموت إذ رن جرس التنبيه بالرسائل الواردة ويال الفرحة وهول الصدمة إذ كانت الرسالة منك وكانت الآن... فاختلطت كلمات الحمد في لساني وأنا افتح رسالة الواتساب... وليتني ما فتحتها...
كانت الرسالة بالفعل من هاتفك ومن الواتساب الخاص بك، ولكن المتحدث هذه المرة لم يك أنتَ... كانت زوجك المصون السيدة الفاضلة "لاله" وهي تغالب الكلمات وتدفعها دفعا لتقول إنك بالفعل قد انتقلت إلى رحمة الله إثر حادث سير قبل قليل علي طريق المطار القديم – كما تقول - وإن إجراءات الغسل والصلاة ستبدأ بعد قليل...
رحماك يا رب...!
ما الذي اسمع وأرى... ما الذي حدث! أأنا حقا في يقظة أم أن ليل الأحد لم ينقض بعد وأنا لا زلت أغط في سبات عميق...
حركت يمناي أمسك ببعض ما حولي من الفراش مخافة أن أسقط وأنا الجالس...! لكن الأرض ساعتها كانت تدور أكثر من ذي قبل... كانت تدور وبسرعة تفوق كل المتوقع أو المعقول...
ورغم أنه ستكون لي مع الدمع مواعد خلال القريب العاجل... فان الدمع ساعتها بدا عصيا بعيدا... ولست أدري – لمَ؟-
تابعت كل إجراءات المستشفي فالمسجد... فالغسل... فالصلاة... وأخيرا الدفن... كأني أرى الكل رأي العين وكأني مع تلك العصبة المؤمنة الطاهرة التي أحاطت بك منذ اللحظة الأولي ورافقتك حتى ودعتك في قصرك الجديد بـ"لكصر"... ورغم صعوبة الموقف وجلل الخطب فقط تطوع حاضرون من الدائرة الضيقة القريبة من الحدث بوضعي في الصورة أولا بأول...
مضي علي حين من الدهر لا أعرف قدره جالسا في ذات المكان حتى انقضي الأمر كله...
أو تعرف يا "أدٌو" أين كنت أجلس كل هذا الوقت...؟
لقد كنت أجلس على ذات "الْمَطْلَةِ" التي كنت أنت تجلس عليها في نفس اليوم من العام الماضي حين وفدت إلينا هنا في مدينة "كوانجو" قادما من مدينة "ييوو" التي تسكن... أو تذكر ذلك؟
كان أحد رجال الأعمال الموريتانيين قد قدم مع زوجته لشراء بعض البضائع وإنهاء معاملات مع بعض الصينيين الذين تربطه بهم علاقات عمل، وشاء ربك أن تداهمه حمي شديدة التأثير حجز على إثرها في أحد مستشفيات "كوانجو" ليغادر الحياة بعد يومين من دخول المستشفى...
ولا أزال أذكر بوضوح صبيحة ذاك اليوم الماطر الذي كلمتني فيه من مطار "ييوو" وسألتني إن كنت بمدينة "كوانجو" الساعة ؟ بدا لي الأمر غريبا فأنا أعرف أنك جد مشغول خلال تلك الأيام مع ضيوف وزبناء جاءوا من بعيد فلم أنت ذاهب يا أدو إلى "كوانجو" وفي هذه الصباح الباكر... خصوصا وأنك البارحة أثناء حديثنا عبر الهاتف لم تخبرني علي عادتك كلما هممت بزيارة مدينتا "كوانجو" فما الخطب يا "آدو"؟
كانت المرأة زوج رجل الأعمال الراحل تسمع بـ"سيدي أحمد" وتسمع حديث الناس عنه كثيرا كلما وفدت إلى الصين... لذا ومن باب الاحتياط أخذت رقمه حين اشتدت وطأة الحمى على الرجل، وقدر الله أن يأخذ زوجها إليه في نفس اليوم لذا بادرت إلى الاتصال بـ"سيدي أحمد" الذي لم يخيب لها رجاء...
لم يكن "آدو" يسكن في ذات المدينة ولم تك تربطه أي معرفة أو علاقة بالرجل أو زوجه ، لكن تلك معايير ليس واردة في قاموس صاحبنا لذا بادر إلى حجز أول طائرة متجهة لمدينة "كوانجو"...
أمضى الرجل أربعة أيام بلياليها في نشاط مستمر أنجز خلاله كل المطلوب لنقل جثمان الراحل من أوراق ومستلزمات وحجز في الطائرة وقبل ذلك كله ما يلزم للميت من غسل وتكفين وصلاة... وحين اتصل "آدو" بالشيخ محمد الحسن ولد الددو يستفسره إن كان يجوز نقل جثمان الراحل من ماله الذي ترك وأفتاه بجواز ذلك إن كان الصينييون يمنعون الدفن في بلادهم، على شرط أن لا يستخدم منه أي شيء خارج ذاك النطاق.. لم يتردد صاحبنا في عمل كل الإجراءات وقطع تذكرة الزوجة من ماله الخاص وأشياء أخرى غير التذكرة والإجراءات... وحين حدثه بعض الحادبين المحبين في الموضوع ليكون دُولة وشراكة مع آخرين.. آثر إغلاق الملف وبحث ما هو أهم كما يقول...
أهٍ يا "آدو"... أو تذكر ذلك...؟
أعرف أنك لربما لا تذكره فأنت كثيرا ما تفعل الخير وتنساه...!
كنتَ تجلس على هذه "الْمَطْلَةِ" حين تعود في المساء من المستشفيات ومراكز الشرطة والإدارات... تتجاذب معنا أطراف الحديث وتحتسي على عجل كأس شاي..
عجب كثيرون من صنيعك يومها لكنني لم أعجب، فانا الذي قابلتك قبلها بأشهر قليلة في مدينة "ييوو" وأنت هائم علي وجهك مسرع في خطاك، وحين سألتك ما الخطب أجبتني أن مصريا قد انتقل إلى رحمة ربه في أحد مستشفيات المدينة وأن المستشفى لا يزال يحتفظ بالجثمان لأن عليه ديونا كثيرة وأن لا أهل له هنا في الصين وأنه يجب ترتيب مبلغ المستشفي والنقل في أسرع وقت ممكن... فقلت في نفسي ومالك ومال المصريين فهم أكثر عددا وأوفر مالا منك ومن جاليتك لكنك لم تلفت لقولي أو نظراتي ومضيت مسرعا في طريقك اللاحب الواسع...
وأذكر بعد ذلك بزمن غير كثير ذاك الشاب المغربي الذي قضي فجرا في حادث سير قرب الجامع الكبير بمدينة "ييوو" وكيف أصررت أن تكون مشاركة جاليتنا هي الأولي والأكثر...
أذكر ذلك كله يا "آدو" وأذكر بعضا من أشياء أخر كثيرة لا يعلمها إلا الله...
دارت هذه الذكريات والخواطر في ذهني كلها ومعها مِثْلَيْهَا وأنا لا أزال حبيس ذات المكان أخاف أن أقوم من مكاني... وأخاف المجهول ولا أعرف بالضبط ما الذي حدث وما الذي علي أن أعمل...
وأخيرا حزمت أمري وقررت أن لا مكان لي ولا وقت لدي للجلوس هنا بعيدا عن مدينة "ييوو" التي بها - على الأقل - من عبقك وأثرك ما ليس بمكان آخر...
كانت طائرة التاسعة مساء هي المتوفرة لذا حجزت تذكرتي بها وتوكلت على الله واتجهت للمطار...
كان الوقت يمضي ثقيلا بطيئا رتيبا... وكانت أبواب المطار وجدرانه الداخلية كما الخارجية كأنما بدلت غير التي كانت أو صبغت بلون جديد لم أعهدها بها رغم أنني حديث العهد بها...
وأخيرا أقلعت بنا الطائرة لتحط بنا في مطار "ييو"... وتلك قصة أخرى.. ولكنني عهدتك يا "آدو" تطيل الإنصات وتجيد الإصغاء وتحسن الاستماع...
فالله المستعان... الله المستعان...
" يتبع".