تابعتُ بمزيج من الإعجاب والإشفاق الجدل الدائر هذه الأيام في صفوف حركة النهضة التونسية، حول تعديل نظامها الداخلي؛ لتمكين رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي من الترشح لرئاستها في ولاية ثالثة لا يسمح بها النظام الداخلي للحركة في صيغته الحالية. ولأني أعتبر نفسي غيرَ متَّهم في صلتي بالشيخ راشد وبالنهضة وبتونس، فقد سمحتُ لنفسي بإبداء الرأي في هذا الموضوع الشائك في سياقه الزمني والسياسي.
ولا بد أن أشير ابتداءً إلى أن هذا الجدل أمر طبيعي وشائع في الأحزاب السياسية، وفي حركات الإصلاح والتغيير بشكل عام، وسببه ضرورة الترجيح أحيانا بين ثمار الزعامة التاريخية الكاريزمية، وثمار القيادة البيروقراطية المؤسسية. فلكلٍّ من هذين النمطين من أنماط القيادة ثمارُه الإيجابية والسلبية، وقد يناسب كلٌّ من النمطين حقبة معينة من عمر الحزب السياسي. وقد تناولتُ هذا الموضوع منذ نحو عقدين من الزمان في كتابي (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي)، وفي رسالتي (معايير النجاح التنظيمي وثنائياته الكبرى)، وحدَّدتُ في هذين الكتابين معايير النجاح التنظيمي في الأحزاب والحركات السياسية في 6 معايير، وهي:
1. معيار المرونة:
ويشمل المرونة الوظيفية التي تعني قدرة الحزب على تغيير بعض أهدافه المرحلية ووظائفه العملية التي تم إنجازها أو تعذَّر. والمرونة الإجرائية؛ أي القدرة على تغيير القيادة بيسر ومرونة، بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو تمزق في الصف. والمرونة العملية، والمقصود بها القدرة على التعاطي مع التحدِّيات المتغيرة بأساليب متغيرة، دون جمود في الأساليب السابقة، حتى إن أثبتت جدواها في الماضي.
2. معيار التماسك:
ويتحقق التماسك من خلال الاتفاق الداخلي على طبيعة الحزب ورسالته: الغاية الأسمى، والأهداف المرحلية، والوسائل الأساسية، وعلى قيادة الحزب: هيكلا وصلاحيات وإجراءات اختيار (وليس الاتفاق على الأشخاص مطلوبا)، وتلك هي الشرعية الداخلية التي تعد أكبر ضامن للتماسك والوحدة. ثم الاتفاق على وسائل حل الخلافات الداخلية طبقا لترتيبات مسبقة، لا تؤدي إلى انشطار في هيكل الحزب، أو تعثر في مسيرته، أو انحراف في وجهته.
3. معيار الاستقلالية:
أي أن يكون للحزب كيان معنوي وشخصية اعتبارية متميزة عن الأفراد -بمن فيهم قادة الحزب- وعن القوى الاجتماعية المكوِّنة له، دون أن تكون هذه الشخصية الاعتبارية مشروطة بوجود زعيم مؤسس، أو جيل رائد. فإذا أصبحت أهداف الأفراد أو القوى الاجتماعية المكوِّنة للحزب في درجة فوق أهداف الحزب أو منافسة لها، فقدَ الحزب معيار الاستقلالية، وضاع كيانه المعنوي وشخصيته الاعتبارية.
4. معيار التركيب:
المراد به مضاعفة الهياكل الحزبية، وتنوعها، وتشعبها. ويشمل التركيب التمايز بين البُنى والوحدات الحزبية، والفصل بينها هرميا ووظيفيا وجغرافيا، مع التكامل والتوازن فيما بينها باستناد بعضها إلى بعض، وتحكُّم بعضها في بعض. فهذا التركيب التنظيمي يساعد الحزب على بناء هويته الذاتية المستقلة عن الأشخاص، وتوطيد استقراره واستمراره، وتأكيد شخصيته الاعتبارية الخاصة.
5. معيار الاستيعاب:
فالغاية من أي حزب سياسي هي تنسيق جهود جماعية، وترشيدها وتسديدها، وتصويبها نحو هدف مشترك، وتجنب تبديد الجهود أو تضاربها أو تناسخها. فإذا استطاع الحزب أن يستوعب أعضاءه ومكوناته الاجتماعية، وينسق جهود الجميع، بحيث يجد الجميع مكانهم المناسب دون إحساس بالغبن أو التهميش أو استئثار رفقاء الدرب، دلَّ ذلك على أن الحزب يسير في الاتجاه الصحيح.
6. معيار الإيجابية:
المراد به أن يحافظ الحزب على زمام المبادرة في شؤونه، ويتفاعل بإيجابية مع تطورات مجتمعه. وتستلزم الإيجابية قدرا من الواقعية السياسية، والسير المتدرج في تحقيق الغايات المبتغاة. ولا يتم هذا إلا باستيعاب عوامل القوة والضعف في المجتمع، وجوانب التقدم والقصور في المسيرة، ووسائل الاكتساب والتأثير، وعوامل التسريع بالتغيير، مع انتباه لأي ثغرة تُفتح، واستغلال لكل فرصة تَسنح.
ومن الواضح أن هذه المعايير قد لا تروق لبعض القادة، الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون أحزابهم في حال من السذاجة والبساطة والتبعية، يمكِّنهم من التحكم فيها؛ لكن هؤلاء القادة بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب، فإنهم يُضعفون الحزب كمؤسسة على المدى البعيد.
وفي ضوء هذه المعايير يمكن النظر إلى الجدل الدائر في حركة النهضة، فقد ظهر مثل هذا الجدل في السنوات الأخيرة في تجربة حزبين إسلاميين مغاربيين آخرين، وهما حزب (العدالة والتنمية) في المغرب وحزب (التجمع الوطني للإصلاح والتنمية) في موريتانيا. وحُسم الأمر في كل من المغرب وموريتانيا لصالح المؤسسية البيروقراطية على حساب الزعامة الكاريزمية (عبد الإله بن كيران في المغرب، ومحمد جميل منصور في موريتانيا)، وكانت الآثار السلبية في الحالتين -في تقديري- أكبر من الآثار الإيجابية، إذ فقَدَ الحزبان جزءا مهما من بريقهما، وإن كانا ربحا ترسيخا أكبر للروح المؤسسية، وليس هذا طعنا في القادة الجدد للحزبين، فلهم فضلهم وخبرتهم، وإنما هو بيان للفارق بين الكاريزمية القيادية والمؤسسية البيروقراطية، وتنبيه على الفارق بينهما.
ويرجع جزء من هذا الجدل الداخلي أحيانا إلى سبب خارجي، وهو حرص بعض الإسلاميين على الظهور بمظهر "ديمقراطي" أمام الآخرين، واتهامهم أنفسهم في هذا الباب، وهي تهمة للذات تدل على ضعف الثقة في الذات، وسهولة الانحصار في زاوية التبرير والدفاع. وينسى أصحاب هذا المسلك أن الأحزاب السياسية في بعض الديمقراطيات العريقة قد يقودها -ويقود تلك الديمقراطيات- قادة كاريزميون مدة مديدة، ما دام أداؤهم الجيد مطَّردا (لاحظ حالتي هلموت كول وأنجيلا ميركل في ألمانيا مثالا). ويرجع بعض من هذا الجدل إلى أسباب موضوعية، مثل سوء أداء القائد، أو ظهور ميول استبدادية لديه، أو انفصاله عن واقع الحزب والشعب وراء حجُب الأقارب والمقربين والمنتفعين. كما يرجع بعضه إلى طموح الآخرين إلى القيادة، وهو حق مشروع لهم بقدر مشروعيته للقادة الحاليين، وفي الغالب دوافع مثل هذا الجدل والخلاف تكون مركَّبة.
ولستُ أستطيع الحكم على دوافع الجدل الحالي في حركة النهضة التونسية؛ لعدم اطلاعي على تفاصيل المشهد النهضوي الداخلي، وخريطة الطرفين المتجادلين، فضلا عن صعوبة الحكم على الدوافع، وهي في معظمها تنتمي إلى عالم السرائر ومكنون الضمائر؛ لكن الرسالة التي بعث بها 100 من شخصيات الحركة الحالية والسابقة، وردّ الشيخ الغنوشي عليها، يدلان على وجود خلاف فلسفي وسياسي عميق بين طرفين، ليس أيٌّ منهما بمتهم في حرصه على قوة النهضة وعلى مصلحة تونس.
ولعل من أسوأ الآثار التي قد يسفر عنها الجدل الحالي في حركة النهضة هو احتمال انشطار الحركة، وفقدانها جزءا من قاعدتها الاجتماعية، في وقت تحتاج فيه الديمقراطية التونسية إلى قوة سياسية مبدئية مثل حركة النهضة؛ لتكون رافعة لها في وجه الثورة المضادة ورياحها العاتية. ومن أسوأ تلك الآثار أيضا احتمالُ فقدان الشيخ الغنوشي جزءا من رمزيته ومكانته التاريخية، حرصا على منصب حزبي وتنظيمي كان يحتله منذ عقود، وهو لا يزيد من رصيده اليوم شيئا؛ بل ينقص منه، فالشيخ الغنوشي يحتل مكانة وطنية مركزية اليوم في تونس، ومكانة رمزية عظيمة في العالم العربي والإسلامي، تغنيانه -في هذا العمر- عن الحرص على قيادة حزب سياسي محلي.
كما أن الشيخ الغنوشي رجل حكيم، وسياسي محنَّك، معروف بروحه التوافقية مع الآخرين من خارج حزبه حول قضايا وطنية كبرى، وليس من ريب عندي أنه قادر على التوافق مع مخالفيه داخل الحزب حول قضايا حزبية أقل أهمية، ويوجد فرق مهمٌّ بين الحق القانوني والحكمة السياسية هنا، فتغيير نظام الحزب في مؤتمره القادم أمر لا غبار عليه من الناحية القانونية الإجرائية؛ لكن فِعْل ذلك من أجل تمديد زعامة زعيم في ظروف استقطاب داخلي قد لا يكون من الحكمة السياسية، وهو يعطي صورة غير جذابة عن الحزب وعن القائد.
ومع ذلك فإن تجربة المغرب وموريتانيا تدل على أن التفريط بالقيادات الكاريزمية -حتى ولو حدث بِنيَة حسنة- ليس من مصلحة الأحزاب السياسية، وأن تعويض هذا النمط من القيادات ليس بالأمر السهل، ويجب مقارنة الخسارة الناتجة عن ذلك بما قد يكسبه الحزب من ورائه، وليس من ريب أن تعويض شخصية الشيخ الغنوشي، وقيادته التاريخية، ومكانته الدولية، لن يكون مهمة يسيرة في وقت تحتاج حركة النهضة إلى زيادة رصيدها المعنوي، وتعميق حضورها المحلي والدولي نموذجا للقوى السياسية المستنيرة.
ويمكن تحقيق حل توافقي للخلاف الحالي في حركة النهضة بعدة صيغ منها: الإبقاء على الشيخ الغنوشي رئيسا رمزيا للحزب، مع نقل بعض صلاحياته إلى القيادات الوسيطة، من خلال التمييز الواضح بين منصب الرئيس ومنصب الأمين العام مثلا، وتقليص صلاحيات ذلك لصالح هذا. ومنها تخلي الشيخ الغنوشي -المعروف بزهده وتجرده- عن فكرة تعديل النظام الداخلي، وعن الترشح لرئاسة الحزب، وبقائه رمزا من رموز الحركة والوطن من خلال منصب رئاسة البرلمان، وعمله مع الرموز الوطنية في تونس، والرموز الإسلامية خارجها لترشيد مسار الانتقال السياسي في تونس وفي العالم العربي كله، فقد جمع الشيخ من الخبرة النظرية والتجربة العملية ما يجعله أهلا لذلك.
ويبقى توافق الحزب على صيغة وسط حول هذا الموضوع قبل انعقاد مؤتمره أمرا حيويا لمستقبله ومستقبل الديمقراطية التونسية، فإن حصل هذا التوافق السياسي قبل المؤتمر، فإن الحلول الإجرائية سهلة، سواء قضت تلك الحلول بتعديل النظام الداخلي أو إبقائه كما هو، وسواء قضت بترشح الشيخ الغنوشي لرئاسة الحزب، أو بتخليه عن الترشح. إنها معادلة سياسية أكثر من كونها قانونية، ومثل أي معادلة سياسية فالنتيجة ستكون خلطة كيميائية معقدة، فيها مصالح ومفاسد، ومنافع ومضار، وإنما تترجح بعض هذه الاعتبارات بحسب سياقات الزمان والمكان والإمكان. ولعل الحكمة السياسية والحاسة الإستراتيجية، اللتين أظهرهما قادة حركة النهضة ومناضلوها دائما، كفيلتان بحل هذا الإشكال، دون تمزق في الصف أو تعثر في المسيرة.
ورغم إيماني الشخصي بأن العمل السياسي الإسلامي يجب أن يتحول سوقا حرا مفتوحا، وأن تعدد الأحزاب الإسلامية والحركات الإسلامية في البلد الواحد أصبح ضرورة لتحقيق التدافع والتوازن، واستيعاب القاعدة الاجتماعية الإسلامية العريضة، فإني لا أتفق مع الداعين إلى "الطلاق بإحسان" بين طرفي حزب النهضة في هذه الظروف. فالانشطار في ظروف الانتقال السياسي الحالي وتربص الثورة المضادة بتونس مضر بالطرفين وبالنهضة وبتونس؛ ولذلك أعتقد أن الأفضل لحركة النهضة أن تتوافق على حل وسط يجمع محاسن القيادة الكاريزمية والمؤسسية البيروقراطية، ويضمن تراكم الخبرة والتجربة، ويصون وحدة الحزب في ظروف الانتقال السياسي الحرجة، التي تمر بها تونس والمنطقة.