توقفت حركة الشاحنات من وإلى الكيلومتر 55 من مدينة نواذيبو على الحدود الموريتانية مع الصحراء الغربية في جزئها الأكبر الخاضع للسيطرة المغربية، منذ أيام بفعل وجود نشطاء صحراويين في المنطقة العازلة بين الجانبين.
هؤلاء النشطاء قادمون من المخيمات الصحراوية في تيندوف والبادية الصحراوية الخاضعة لسيطرة البوليزاريو على أعين قوات الأمم المتحدة (المينيرسو) وقوات الجيش الصحراوي. اعتصموا في مخيم ضربوه على الطريق غير المعبد الفاصل بين جانبي الحدود، وزارهم الجنرال الباكستاني الذي يقود المينيرسو.
ليس الجدل جديدا بشأن الگرگارات أو القرقارات لمن ينتابه نطق القاف كافا معقودة (في كل الأحوال فإن تلك الصخور البيضاء التي تسمت بمنطقة آمقرقر بسبب صفير التيار الكناري السرمدي في تقعراتها وفجواتها ونتوءاتها اتخذت الاسم من صوتها لا من شكلها)؛ فقد انسابت فيها حركية الأفراد والشاحنات منذ سنوات.
البوليزاريو سكتت عنها لأسباب إنسانية تعلقت حينها بلم شمل الصحراويين في اللجوء والشتات مع ذويهم القادمين من الجزء الواقع تحت السيطرة المغربية، والمغرب سكت عنها لأنها تنسجم مع الواقع الجيوسياسي الذي صنعته المملكة على الأرض.
مؤخرا اشتغل طرفا النزاع الصحراوي (المغرب والبوليزاريو) كثيرا على الصعيدين الدبلوماسي والحقوقي، وذلك لخلق واقع يغير مفردات نقاشات مجلس الأمن الدولي المتوقعة في نفمبر القادم.
المملكة المغربية فتحت قنصليات لبعض الدول الإفريقية في مدن العيون والداخله وحاولت كل جهدها أن تنضم لمنظمة الإيكواس (السيدياوو) رغم أن عدم الانتماء جغرافيا للمنظمة شبه الإقليمية والفيتو النيجيري خذلاها كثيرا، وقد نجحت المملكة المغربية حتى الآن في استدامة البعثة الأممية للعقد الثالث والحفاظ على الفيتو الفرنسي والغربي عموما رغم رزنامة التحفظ الروسية.
والبوليزاريو عملت كثيرا عبر بعض أعضاء مكتبها التنفيذي غير المعلنين داخل الجزء الأكبر من الإقليم (80%) الخاضع للسيطرة المغربية على الجانب الحقوقي حيث كشف إعلامها عن حالات قمع أمنية موثقة في البوادي والمدن الخاضعة للسيطرة المغربية، كما قادت حملات قضائية في بعض عواصم غرب أوروبا واسكندنافيا أدخلت فيها مصطلحات جديدة على معركتها مثل الدفاع عن الثروات السمكية والمعدنية للصحراء الغربية كثروات للشعب الصحراوي.
الجبهة الداخلية المغربية تأثرت سياسيا بالجفاء المغربي الخليجي الناجم عن حالة التيه من الصراع الخليجي - الخليجي، وظهور مودة جديدة بين التحالف الحاكم في إسبانيا والجزائر، خصوصا بعد تراجع دور القصر الملكي في إسبانيا الذي طالما حدد معالم العلاقة بين الرباط ومدريد.
وعلى صعيد البوليزاريو وبعد عبور الجزائر لأزمة ما بعد الحراك وجُمعاته المتتالية وصراع الحرس القديم (بوتفليقة – القائد صالح) تريد الجبهة الثورية أن تنفذ أجندة مؤتمرها الأخير المتمثلة في خلق ديناميكية جديدة للصراع غير تلك التي كانت قائمة منذ وقف إطلاق النار، وبدأت بالحديث عن فك الارتباط مع بعثة الأمم المتحدة وعودة الكفاح المسلح.
الجانبان تحاورا بشكل مباشر مرتين في جنيف نهاية السنة قبل الماضية وبداية الماضية تحت راية الأمم المتحدة، لكن سرعان ما استقال المبعوث الأممي للمنطقة وهو الرئيس الألماني الأسبق لأسباب "شخصية" وتوقفت المفاوضات المباشرة.
المعبر الحدودي الذي تسميه البوليزاريو "ثغرة غير شرعية" ويسميه المغرب نقطة الحدود الجنوبية لن يفتتح على الأرجح إلا بعد اجتماع مجلس الأمن حول القضية في نفمبر القادم، وقد يتحول الاعتصام المعرقل له إلى مخيم جديد للاجئين الصحراويين المعتصمين للإيغال في إحراج المملكة المغربية وإظهارها كبلد محتل للصحراء الغربية منكلٍ بمواطنيها؛ ولن يتجرأ الجيش المغربي على الأرجح على تفكيك الاعتصام بالقوة لكي لا يقترف خرقا لوقف إطلاق النار حيث يقع الاعتصام خارج (الجدار السادس) وهو آخر حلقات الجدار العازل الملغوم الذي يفصل عمليا بين الفريقين والذي بناه المغرب على طول 2700 كلم وتزيد قليلا.
لكن الجيش الصحراوي هو الآخر لن يتمكن من الانتشار خارج مناطق الاتفاق العسكري تجنبا لحرج اختراق وقف إطلاق النار. والبوليزاريو المرغمة على فعل شيء محرجة جدا بسبب تداعيات الإغلاق على السوق الموريتانية؛ وقد تعمل على إغراق هذا السوق ببدائل زراعية من الجزائر سدّا للذريعة.
في المحصلة فإن ما يحدث في الگرگارات وإن كان في ظاهره عملا مدنيا حقوقيا يرفع القائمون عليه شعارات سياسية؛ هو قتل عملي لنقطة الوصل البري الوحيدة بين المغرب وإفريقيا بعد خمس وعشرين سنة من الإغلاق البري للحدود المغربية الجزائرية.
سيلتزم الموريتانيون – رسميا - على الأرجح الصمت والحياد تجاه الحدث ويتبنون البدائل استعجاليا لأن سعر كلغرام الخضر غير الجافة تضاعف في نواكشوط بثلاثة أضعاف في يومين بسبب توقف التموين من المزارع المغربية، لكن مئات المواطنين المغاربة في نواكشوط ونواذيبو العاملين في تجارة الفاكهة والخضار القادمة من الداخل المغربي قد يضطرون لاستجلاب بضائعهم عبر البحر.
من أطرف ما في استنطاق المشكل في الصحراء الغربية أن كل موريتاني تحدث فيه كتابة أو تحليلا يملك خانة تصنيف جاهزة لدى الأطراف المتصارعة؛ مما جعل استنطاقه بتوازن أقرب لرقصة بالييه، والسبب هو أن موريتانيا كانت طرفا في اتفاقية مدريد التي كفر بها كل موقعيها لاحقا بعد الانسحاب الموريتاني وإعادة الانتشار المغربي وحرب الاستنزاف الصحراوية وقد يكون الأمر مختلفا لو تعلق الأمر بكاتب أمريكي أو نرويجي مثلا.
وهكذا فإن اعتصام الگرگارات في أكتوبر 2020 هو عنوان لمرحلة جديدة من الصراع على الصحراء الغربية، يخوضها مدنيون بعيون عسكرية وعقول سياسية .