كلمة الإصلاح قبل كل شيء تود أن تذكر أسفا أنها الآن عائدة من خيبة آمال طالبت فيها من السلطتين التنفيذية والتشريعية في موريتانيا منبهة لهما أنه يكفي من إهانة ترسيم اللغة العربية في الدستور ومع ذلك تفرنس إدارة سلطتيهما احتقارا لهذا الشعب، ولم تتذكر آية ولا حكمة عربية بليغة تشيد بهذه اللغة إلا أوردتهما في المقالات، وعندما تذكرت أن إبراهيم خليل الله طلب ربه في قوله: {ومن ذريتي} بعد أن أعلمه الله أنه سيجعل منهم أئمة ولكن الله استثنى منهم الظالمين فقال: {لا ينال عهدي الظالمين} كما تذكرت قول الشاعر:
إذا كان رب الدار للدف ضاربا *** فلا تلومن الصبيان على الرقص
إذا كانت هاتان السلطتين هما المتفرنستان في مكاتبهما فلا تلومن مكروه المسلمين على الإصرار علي الإساءة إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فضلا عن كتابة لغته داخل الشعب الموريتاني، ومن هنا أعلن للشعب أن الذي يدوس دستوره ولغته هو سلطاته العليا أولا المدنية والعسكرية.
وبعد ذلك اليأس من تعريب السلطتين صدر في المواقع ما قيل من إصلاح ما جاء في خليل مصر من فقه الموضوعات ليتماشى مع طوارئ الزمن، وأن الخليل النحوي حفظه الله المفكر المقتدر الفاهم الرزين "دندن" في ذلك وتبعه خليلون آخرون في الاسم وبعضهم في الفكر إلى آخره.
إنني بدوري أصرح أن هذه الفكرة الذهبية وردت على بردا وسلاما، ولكن على فكرة مغايرة تماما كنت أتمنى أن نرى لها الفرصة اقتراحا من غيري.
وعلى كل حال فإن كلمة الإصلاح تحمل مقالها هذا ما يلي: كـأنه رسالة إلى جميع المسلمين، فعلى المسلمين جميعا أن يفهموا أن الله عندما أراد خلقهم من آدم كما هو معروف جعل لهم دارين الأولى محدودة المقام، والأخرى دائمة المقام، فالدار الثانية لا أمر فيها ولا نهي بل السكني الدائم فيها كما يريد الله.
أما الأخرى فهي التي فيها جميع الأوامر والنواهي من أعظم الأوامر والنواهي وأفحشها إلى مناديب الأوامر ومناديب النهي عن المنهي بدرجة النهي، وهذه الأوامر المأمور بها والمنهي عنها جاءت بها من عند الله رسل إلى كل أمة من شكلهم الإنساني لا يزيدون فيها كلمة واحدة من عندهم بعدما يبلغهم بها الملائكة من عند ربهم وغير مسؤولين أي هؤلاء الأنبياء إلا عن تبليغها وليس عن امتثالها، فلم يبق دورهم بعد تبيينها في الدنيا إلا الشهادة بهذا التبليغ يوم القيامة، ولكن لم تبق أمة إلا وجاءتها تلك الأوامر والنواهي ، يقول تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} ويقول تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
أما امتثال تلك الأوامر أو مخالفتها مهما كان عظمتها أو حجمها فقد وكل الله به ملائكة يلصقونه فور صدوره من صاحبه ذكرا كان أو أنثي عربي أم أعجمي ومهما كان لونه، فمن بلوغه عاقلا لا يتحرك ولا يقول ولا يفعل إلا كتب في عنقه تموت معه وتبعث معه.
وبعد انتهائه من زمن هذه الحياة المحدودة المقدرة له، ففور انتهائها لا يتصل به بعد تلك اللحظة إلا الله وحده جل جلاله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا رجل من بني آدم وفقه الله لرضاه.
فجميع الآيات عند انتهاء الموت تقول: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون}، وهذا كما نعلم جميعا عام في كل البشرية.
هذه القاعدة العامة لم تشذ عنها رسالة النبي صلي الله عليه وسلم إلا أنه هو أرسل للناس كافة، فعندما انتهت مدة رسالته ونزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} إلى آخره.
فعندئذ بين الرسول للناس ما نزل إليهم فيما يعنيهم، فمنهم الكافرون والفاسقون والظالمون ومنهم قبل ذلك المؤمنون، فبين للجميع الحلال والحرام، ومعاملة كل إنسان مع خالقه ومعاملته كذلك مع مخلوقاته في كل صغيرة وكبيرة وما هو مطلوب منهم جماعيا أو فرادي ولكن كل هذا في زمن حياة الشخص، أما بعد لحظة موته سواء كان نبيا أو ملكا أو بشرا إنسيا أو جنا فلا دخل لأي كائن من كان فيما سيكون بينه وبين الله يوم القيامة رحمة أو عذابا.
ورسالة النبي صلي الله عليه وسلم للبشرية كلها انتهى المسطور فيها والمأمور به والمنهي عنه عند نزول قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فهذه الآية لم يكتمل نزولها حتى أحال الله مسؤولية ما فيها كلها إلى عنق الصحابة الذين كانوا آنذاك مع الرسول صلي الله عليه وسلم بدليل ضمير الجمع المخاطب في قوله "كم" في آخر كلمات الآية.
ويعلم الجميع أن هذا التكليف بالإحالة انقسم إلى قسمين، فقسم يتعلق بكل شخص بمفرده وشرحه النبي صلي الله عليه وسلم أمام الصحابة بسؤال جبريل له عنه، ففضلا عن عقيدته كيف تكون فيما لا قدرة للبشر على رؤيته وهو الله والملائكة والقدر خيره وشره وما فات من الرسل والأمم وما جاء في كتبهم، وكذلك مسؤولية عبادة كل شخص المفردة وقد حدد له نوعها، فهذه الأمور واضحة لكل مسلم.
أما الشطر الثاني من رسالة النبي صلي الله عليه وسلم فهي التي تتعلق فيما بين اثنين فما فوق من عباده وثالثهما في الحضور فيها هو الله وحده جل جلاله، وقد جعل على كل شخص من الاثنين الذين هو معهم ملائكة يكتبون عليهم ما قالوه وما فعلوه حسب ما أمروا به في الكتاب الذي نزله على عبده ليكون للعالمين جميعا نذيرا، إن كان خيرا أو شرا فيما بينهم فهم محاسبون عامة عليه.
ونحن البشر نعلم أن الله لم يترك مثقال ذرة قد تكون بين اثنين إلا أنزل فيها حلا يناسب فحوى الرسالة كلها حكما وعدلا لا مبدل لكلماته، وهذا التوجيه العام الصالح لكل زمان ومكان تدور مصلحته بين توجيهاته الشاملة هو الفيصل بين رب العباد ومؤاخذته لهم فيما يقع بينهم لا يحضر أي أحد لهذه المحاسبة إلا المعنيين والشهود طبقا لما وقع أمام الله.
فكما قلت فإن العقيدة وأوامر الإٍسلام وكيف تكون عليه العبادة، هذا كله بين أولا في حديث جبريل عليه السلام والمطلوب تفصيله منه فصله النبي صلي الله عليه وسلم ما لم يأت منه منصوصا في القرآن مثل الصلاة والصوم والحج والعبادات والأذكار وأوقاتها إلى آخره.
أما الأحكام الأخرى التي تطرأ بين المسلمين ويحتاجون للمعاملة فيما بينهم من غير ظلم بعضهم لبعض فترك لها قواعد عامة يتفق المسلون تقريبا من فهم أمهاتها الموضحة في القرآن {ولا تنسوا الفضل بينكم}، {ولمن صبر وغفر} إلى آخر ذلك، وكذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قواعد: (لا ضرر ولا ضرار) الشاملة لكل شيء.
ولم يبين الله للمسلمين رجلا من أي قبيلة ولا نص على مشرع غيره ولا غير ذلك ولكن ترك المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأعطى لإجماعهم على الأصلح أنه أٌقرب للطريق المستقيم المأمور باتباعه.
فكيف نحن هنا في موريتانيا في هذا القرن وإن توارثنا نوعا من المعاملة الفقهية وقعت في ذلك الزمن من غير أن نرى نصا ثابتا ونحن لم نصل بعد إلى حق اليقين يوم القيامة، ولاسيما يخيل لنا كلام من سموا رؤوسهم حقوقيون تسمية الدنيا، فمن مات منهم فقد شاهد حق اليقين ومن ما زال حيا فهو ينتظر ذلك الحق عما قريب.
فما هو الفرق بين قضية الرق في زمن الإسلام وبين زكاة من لم يملك قيمة شاة واحدة، ومن لا يستطيع أن يحج، فإذا كان بعض علماء الأمة عنده رفاهية فكرية في قواعد الإسلام وأراد أن يستشرف الأحكام قبل أن تقع، فعلى المسلمين أن لا يفهموها أنها حكم منزل من الله مهما كان المستنتج له لأنه جاء بعد قوله تعالي: {اليوم أكملت لكم دينكم} ولكن جاء بعد حديث النبي صلي الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)، ومعلوم أن الفقه معناه يفتح فهمه لفهم الدين كما هو.
وإلى كلمة أخرى أكثر وضوحا وفي مواضيع أخرى أحوج وأحوج كثيرا بالمراجعة لأن ما بعدها {لا مرد لها من الله ومالهم من دونه من وال}.