اقترح الرئيس الموريتاني السيد محمد عبد العزيز إضافة خطين أحمرين للعلم تمجيدا للمقاومة واعتبرت حكومته ذلك تحسينا للرمز الوطني بينما استهجن الكثيرون المبادرة الرئاسية واعتبروها تخشينا للشعار الجميل الذي ألفه الموريتانيون والتفوا حوله، منذ قيام دولتهم الناشئة.. ويعارض الكثير من الموريتانيين، من المنضوين في الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية والمستقلين، مسعى القيادة الهادف إلى تعديل الدستور والمساس بالعلم ويعتبرون التحريف غير مناسب في ظروف الهرج والمرج التي تجتاح المنطقة والتي يحتاج فيها الشعب لقواعد ورموز وطنية توحده. ومن دواعي الطمأنينة على مستقبل الدولة أن الكثير من أبناء هذا الشعب بدأ يستحضر وجوب الدفاع عن المبادئ المدنية ويشرفني أن أكون من هؤلاء مع أن موقفي لا يستند على خلفية سياسية ظرفية وإنما ينطلق من قناعات مدنية وقانونية حدت بي من قبل إلى مواجهة خطاب "البطاقة البيضاء" ودفعتني لمعارضة انقلاب 2008 واتفاق داكار الذي أعقبه وقد عبرت عن ذلك في كتابات موثقة ومتضافرة أحضر لنشرها في كتاب.. وفي هذا السبيل، ومثلما أنشط اليوم في مبادرة الدفاع عن المكتسبات الدستورية، كنت أحد مؤسسي مبادرة الدفاع عن الدستور "مدد" التي تصدت لقرار الشغور الصادر عن المجلس الدستوري وبناء عليه أسندت الرئاسة لبا امباري، رئيس مجلس الشيوخ.. وأنبه القراء إلى أنني إنما أثير مواقف شخصية طواها الزمن ردا على تهم جزافية أصدرها بعض مناصري التعديل الدستوري مؤخرا.
أما فقرات هذه المعالجة فاضمنها خواطر تتعلق بتقدير المقاومة وتكريمها (1) وبكون رفع العلم الأخضر بهلاله ونجمته الذهبيين يتطلب معارضة شائبة الخطين الأحمرين (2) وبأن استقلال الدولة ليس خاتمة المطاف وإنما بداية مشوار (3) وأتناول خط المقاومة القانونية وأهمية الدفاع عن المكتسبات الدستورية لتكريس أسس دولة القانون (4) وأختم بخلاصة تتعلق بأهمية الأخلاق ووجوب تكريسها في حياتنا العامة (5).
1.
المقاومة هي ردة فعل حي أو أحياء على واقع لا يقرونه فبدلا من الاستسلام لتجاوزات غير مقبولة في نظره يبادر المقاوم بتحدي المتجاوز ومواجهته باستخدام وسائل متفاوتة تعتبر الذخيرة الحية اليوم ذروة سنامها وتتدرج أسلحة المواجهة فيما دون ذلك.. وفي مقابل أساليب أهل الشوكة توجد مقاربات مسالمة تقتصر في مقاومتها على مقاطعة المتحكم وعدم التعاطي مع وكلائه ومنتجاته وقد تميز في انتهاجها المحامي الهندي غاندي الذي دعا مواطنيه لمقاطعة المستعمر الإنجليزي اقتصاديا وتمكنت بلاده بفضل منهجه المبتكر، الذي عبر عنه بالصوم والمشي، من نيل استقلالها دون بذل الدماء.
ومن أساليب المقاومة السلبية للمستعمر عدم التعاطي مع ثقافته وهو نمط أبلى فيه الموريتانيون بلاء حسنا عندما امتنعوا من ولوج مدارس المستعمر لدرجة أن بعض الأحياء تعاضدوا لافتداء أبنائهم بدفع دية التلميذ المبتعث لذويه لقاء قبول تحمل عار الانخراط في نظام المتغلب وكأن الدراسة في مدارس المستعمر تعدل الموت في نظر بعضهم.. وقد ذكر الأستاذ المختار ولد داداه، رحمه الله، في كتابه "موريتانيا على درب التحديات" بأنه يعرف مجموعة في الجنوب رفضت إرسال أي من أبنائها للمدارس الفرنسية حتى عام 1960.. أما عن شمال البلاد فقد طالعت وثيقة فرنسية تثبت قرار الإدارة الاستعمارية بحرمان أحد الشيوخ التقليديين من المزايا، التي كان المستعمر يصرفها لزعماء القبائل، لأن مجموعته لم ترسل من أبنائها من يتعلم في المدارس الفرنسية.
2.
من واجب كافة الموريتانيين التمسك بالمستطيل الأخضر الذي يتوسطه الهلال الذهبي ونجمته الخماسية الجميلة لأنه رمز سيادة بلدهم مما يوجب الاعتراض على أن تشوب اللونين الوطنيين شائبة سيما إذا كانت من قبيل "الشرك الأحمر" الذي يتطير به أغلب ساكنة البلد.. ومن دواعي الاعتزاز أن جل الموريتانيين يحبون علم بلدهم ويتعلقون به ولذلك لا ينبغي للقيادة أن "تنفرهم".. وقد لمست شخصيا آثار التعلق لدى طلبة معسرين خارج البلد، فبينما كنت أجول في السوق الكبير للعاصمة التونسية، خلال شهر فبراير 2017، لفت انتباهي محل يعرض تشكيلة من أعلام البلدان المختلفة وعندما ساءلت البائع عن علمنا أجابني بأن المعروض منه قد نفد لأن الموريتانيين اشتروه.. الطلبة المغتربون في تونس الذين يستجدون منح بلدهم دفعوا دنانير يحتاجونها لقاء اقتناء العلم الوطني.. ومن دواعي سروري أن صاحب المحل التونسي الذي قابلت كان فنانا ولذلك عرض علي رسم العلم ونقش العبارات التي أريد فعدت إليه بعد وقت يسير ووجدته منهمكا في النقش على صينية ذهبية اللون يتوسطها علم بلادي محلى بعبارة "أحب هذا العلم".
من حقنا أن نعارض تشويه علم بلدنا بشريطين أحمرين لأن الإضافة تهدر قرابة ستة عقود من سيادة الدولة الموريتانية وانسجام مواطنيها.. ولأن الهدف المعلن للخطين هو تمجيد المقاومة المسلحة فإن مفهوم مخالفته يعني عدم الاحتفاء بالمقاومة الثقافية ذات الإنجازات المشرفة.. فكما يتفوق الموريتانيون في مباريات الشعر اليوم تميز السلف في مناظرات الفقه والأدب مما أكسب بلادنا صورة ناصعة في المشرق أرض المنبع والقبلة التي نولي وجوهنا شطرها خمس مرات في اليوم ونوجه إليها أمواتنا عندما نسجيهم في القبور.
إننا نعارض الخطين الأحمرين لما يثيرانه من خلاف ترجمته مطالبة فئات مقدرة من المواطنين منهم من اقترح إضافة لوح ودواة تخليدا للمقاومة الثقافية المذكورة بينما اقترح آخر خطا أسود يقدر السواعد التي أسهمت في بناء الوطن ولا غرو إن اقترح آخرون راحلة أو محراثا أو ثورا أو مطرقة وسندانا.. مما وسعه هذا الوطن ولكن رقعة الرمز تضيق عنه لذلك فمن واجب كل منا أن يعتد بعلم وطن ليس لنا غيره وأن يرفعه عاليا باعتباره أهم تجسيد للسيادة الوطنية.
3.
إن نيل الاستقلال، في حد ذاته، لا يحقق طموحات المواطنين وإنما يدشن لبدء تحديات كبيرة تلزم مواجهتها فبعد الانتصار في معركة التحرير يبدأ صراع البناء المستمر خاصة في البلدان التي ترك فيها المستعمر فراغا كبيرا ومن أكبر التحديات وضع التشريعات وفرض احترامها كي لا يؤدي تفاقم التجاوزات إلى إنتاج دولة فاشلة تعجز عن تحقيق طموحات مواطنيها في العيش والرفاهية والتعليم ولا تفلح في جذب الرساميل الأجنبية التي لا غنى عنها للتنمية في عالم اليوم لذلك فإن أعظم تحديات الكيانات المستقلة هو تشييد دولة القانون. وعندما نحلل فترة حكم الرئيس الموريتاني الحالي، للحكم عليها بموضوعية، نجد أنها اتسمت بانتهاكات قانونية كبرى: بدأها بالانقلاب على رئيس منتخب واعتاد خلالها التقليل من هيبة الدستور عن طريق تعديله في كل فترة رئاسية كما حمل الدولة على عدم احترام المدونات القانونية في عقود كبرى واتسمت ممارسته للحكم بعدم احترام الفصل بين السلطات وانتهاك حرمة السلطتين القضائية والتشريعية. أسرد هذه المآخذ باقتضاب لعدم اتساع المقام لتفصيلها.. وأخيرا اقترح تعديل رمزنا الوطني لتكريم المقاومة وتعديلات أخرى يعتبرها السواد الأعظم من الموريتانيين غير مقنعة.
الشريعة الإسلامية التي ينقاد لها مجتمعنا طائعا والتي استشهد المقاومون أنفسهم في سبيل الدفاع عنها تقدم الأحياء على الأموات الذين يجب علينا، كمسلمين المبادرة بتكفينهم في البياض والصلاة عليهم وإكرامهم بدفنهم قبل العودة السريعة لمباشرة مهام حياتنا الاعتيادية وأي شخص من هذا المجتمع يرضى بأن يلف فقيده في رداء أحمر أو أن ترفع على قبره راية قانية وما القائل بإجراء لا يوسع قبور الأموات ولا يطمئن خلفهم من الأحياء؟.. الاهتمام بالحاضر والتأسيس للمستقبل أولى من الالتفات إلى الماضي خاصة في مجتمع يعيش شظفا وشدة لا يبدو أن قيادته تحسهما لأنها لا تعمل بفعالية لتغيير الظروف المعيشية الصعبة التي نعيشها هنا وهناك وإنما تنهمك في دعاية عبثية تمجها الذائقة العامة لنخبة المجتمع سرا أو علانية.
4.
يتعين أن يقف المواطنون صفا واحدا لحماية القانون ومن واجب السلطات أن ترفع علم احترامه لأن القواعد العامة والمجردة هي النخاع الشوكي للكيان الجامع وهي الأداة الفعالة لضمان حاضر ومستقبل الدولة التي يناط بها توفير مقومات البقاء للأحياء عوض النمط المستورد لتمجيد الأموات الذين يجب علينا كمسلمين الترحم عليهم.. ومن بوادر الوعي المدني التشبث بخط المقاومة القانونية الذي ينخرط فيه الموريتانيون اليوم أفواجا فعلى نحو غير مسبوق يبدي الكثيرون معارضتهم للتطاول على الدستور وقد بين إعلان مبادرة الدفاع عن المكتسبات الدستورية أن التعديلات المزمعة تخرق مسطرة التعديل المقررة بوضوح في النظام الأساسي الذي يحكم سلطات الدولة.
وردا على الحراك المناهض للتعديلات الدستورية التعسفية، لاحت تسمية جميلة هي "الرابطة الموريتانية لدولة القانون" التي طالعنا إرهاصات تظاهرتها الأولى (يوم 20/04/2017) وتابع الرأي العام في مساء اليوم الموالي، عبر قناة الوطنية، مناظرة بين الدكتور لو غورمو عبدول، أحد مؤسسي مبادرة الدفاع عن المكتسبات الدستورية والقاضي فضيلي ولد الرايس، أحد أقطاب الرابطة ذات التسمية الجذابة.. ولكن القاضي فاجأ الكثيرين عندما حكم بأنه لا توجد في الدستور مواد محصنة وأضاف بأن في متناول الرئيس أن ينسف الدستور من أساسه (Il peut souffler la constitution) وهو قول نعتبره، من منطق القانون، كافيا لرفض قبول هذه الرابطة من حيث الشكل.. ربما لا يدرك القاضي الفاضل أنه بمقولته المنكرة أصبح أكثر ملكية من الملك: أعني الملك الفرنسي الويس الرابع عشر الذي خاطب قومه قائلا: "أنا الدولة" L’état c’est moi .. قال ذلك عندما شكك قضاة البرلمان في شرعية ترتيب (édit) ملكي يفرض جبايات جديدة، ورغم أن الحدث يعود لسنة 1655 لم يجد الملك من القضاة من يقر مقولته ولم يسجل التاريخ عبارة: نعم أنت الدولة.. وتوجد أعذار مخففة لصالح الملك لا يستفيد منها قاضينا فقد قال الويس عبارته بينما كان مراهقا في عامه السادس عشر وكان تحت ضغط الحاجة لموارد مالية لإمداد الجيش الفرنسي الذي كان آنذاك يخوض حربا مع إسبانيا ولا غرو أن خامر الغرور ملكا مراهقا ورث الحكم عندما كان صبيا في سنته الرابعة.. وعلى الرغم من ظروفها التاريخية لاقت العبارة استنكارا واسعا، لاعتبارها تجسيدا للحكم المطلق، ولا يزال الفرنسيون يأنسون عارها لدرجة أن بعض مؤرخيهم يثير الشك في صحتها أصلا.. لذلك فمن واجبنا الآن أن نخاصم القاضي (غير المختص) الذي حكم بأن دستورنا غير محصن وأن إرادة الرئيس فوقه.. نعارض الحكم لأنه لا يستند على أساس قانوني ولأنه لم يعتبر المكتسبات الدستورية الوطنية ولأنه يرجعنا للفطرة البدوية التي لم تعد تحقق طموحاتنا في الوجود ولا توفر لنا مقومات الحياة التي ينعم بها الناس من حولنا.. أذكر القاضي بالدلالة القانونية للحق المكتسب ومن تعريفاته أنه "الحق الذي لا يجوز للقاضي أن يمسه بسوء أو يسلبه صاحبه بحجة تطبيق قانون مستجد".. والخلاصة هي أن قاضينا غدا، بمقولته، أكثر ملكية من الملك الشمس (Le roi-soleil).
5.
أورد الذهبي في كتابه سير النبلاء وغيره، أن عبد الرحمن ابن الحكم المرواني، ارتكب في نهار رمضان، فعلا يوجب الكفارة فجمع فقهاء من دولته وعرض عليهم الأمر فأفتاه يحيى ابن يحيى الليثي بأن عليه صيام شهرين متتابعين.. ولما انصرف الفقهاء عن مجلس حاكم الأندلس سألوا الليثي: لم لا تفتيه بمذهبنا عن مالك في تخييره بين العتق والصوم والإطعام؟ فأجابهم النقيب: "لو فتحت له هذا الباب لأدمن على انتهاك حرمة شهر رمضان لأن العتق يسهل عليه فحملته على الصعب لئلا يعود".. وعلى ضوء هذه الفتيا الناصحة التي تجنب صاحبها الإفتاء بمندوحة معلومة لمقصد شرعي واضح (رغم تعلقها بأحوال شخصية لا تعلق لها بحياة الناس) نتساءل عن المقصد العام من فتوى فقهائنا الذين أفتوا الرئيس بهتك أستار الدستور وعدم احترام الإجراءات الخاصة الواضحة المقررة في نصه؟ من حقنا أن نطالع مستندهم مكتوبا.
وجملة القول أن من واجب النخبة الموريتانية أن تتعاون على تكريس الدعائم المعنوية لدولة قانون ثابتة الأركان مما يقتضي صيانة المكتسبات الدستورية ويتطلب مواجهة دعاة التقهقر وعلى من يتقلدون المسؤوليات السامية أن يدركوا أن تهذيب الجماهير يعد ضمن أكبر مهام الدولة.. ولذلك يجب إطلاق حملة لتكريس الأخلاق في الحياة العامة بإقناع المواطنين بأننا في عصر السلطات المتوازية التي يوقف بعضها البعض.. وأننا مؤمنون بالله الواحد القهار ولذلك ننكر قول ابن هانئ الذي خاطب المعز لدين الله قائلا: ما شئت لا ما شاءت الأقدار... فاحكم فأنت الواحد القهار.
ومن مسؤولية رئيس الجمهورية، بشكل خاص، أن يقود الحملة المذكورة وأن يحرص على مصالح قومه ومكانة بلده وأن يعمل فطرته، السليمة طبعا، فيما يثار حول التعديلات الدستورية: أي المذهبين أقوم أهو القائل بوجوب احترام الإجراءات المقررة لتعديل الدستور أم القائل بأن الدستور غير مقدس و"يمكن تمزيقه" لعرض دستور جديد يعول في تمريره على من لا يدركون فحواه: ويمكن للرئيس أن يتأكد بأن أغلب من ينطلقون في مسيرات تأييد التعديلات الدستورية لا يدركون كنهها.
أما المختصون الموريتانيون في القانون فمن واجبهم أن يتذكروا بأن القاعدة القانونية قاعدة أخلاقية.. ولله در، عمرو ابن الأهتم، القائل:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق