في السنغال المجاور لا ينضج السياسي أو يتخطى العتبة إلى الطموح لنيل أصوات الجماهير و تولي الشؤون الكبرى في الدولة و يُعالج همَّ المواطن، إلاَّ أن يتقن اللعبةَ فيُؤلف في فنونها ثم يُقنع بالأداء الميداني الصارم المتضمخ بالإحاطة الشاملة بالهموم و الدراية بالقضايا و العلم بقدرات البلد و طاقاته البشرية و الاقتصادية، و مكامن اختلالا ته البنيوية، و نقاط القوة التي يمكن أن تتراءى منها الإصلاحات في إطار برنامج سياسي محبك التحضير من ناحية، و بالوطنية و جوهر الإخلاص للشعب و الدولة.
أما في موريتانيا فإنه بين إدراك البعد الذي يرمي إليه المثلُ الفرنسي القائل: "الغائبون دائما على خطأ"، و استنتاج مغزى قول الشاعر العربي المخضرم عمرو بن معد يكرب:
لو نارا نفخت بها أضاءت *****ولكن أنت تنفخ في رماد
يجد المتتبع للشأن السياسي المحلي نفسه مستغرقا في تيه الحيرة تتقاسمه اثنتان:
· صعوبة فَهم التناقض الشّديد الذي يطْبع ساحة البلد السياسية مُتمثلا في شبه غياب الشعب المطلق عن ساحة الشأن الوطني، و عن دائرة معالجة اهتماماته من جهة، و شدة التباين الحاصل بين تعارض ما كان مفترضا أن يكون عليه البلد، بعد ستة و ستين عاما من الاستقلال، في واقع الأمر من استقامة الحال، و ما هو عليه عكس ذلك من سوئه و تعثر النهضة فيه على الرغم من كثرة و تنوع المقدرات الهائلة المتوفرة للبناء و التشييد، و بعض حسن السيرة التاريخية التي لو أنها استغلت بمهارة و تواضع و علمية لكانت هيأته لتجاوز مرحلة التخلف المزمن،ثقافيا على الأقل، من جهة أخرى.
و بعيدا عن الشطط السياسي و التحجر الفكري و التأخر الثقافي السائدين في البلاد لأسباب تاريخية غير موضوعية و أخرى اجتماعية و أنتروبولوجية عميقة، فإن وضع مضمونِ هذا الكلام على محك الاعتبار النقدي الإصلاحي أمر وارد لو اتبع كان جديرا بتحقيق الذي ما كان إلا ليستقيم من خلال فتح أبواب فهمه، و سد أبواب تجاهله بالمقابل و رفض كل الشواهد الموضوعية الداعمة وجوده المقيِّد.
و بالطبع فكلما كان قادة الرأي، القريبون من الأنظمة الحاكمة و الآخرون من دائرة المعارضين لها، يغفلون القضايا الأساسية والمصيرية للدولة والأمة و ينحدرون، بتكرار و تعمد هفوات السياسيين الهابطين، إلى مستنقع التفاصيل المعيقة فإنه من المفروض كما كتب أحدهم ذات مرة:
"
أن تَخزهم شعوبهم وَخزة مُوجعة توقظهم من سباتهم قبل فوات الأوان ليتفادوا ما فاتهم أو يتداركوا بعضا مما يمكن إنقاذه. و يقصد الكاتب بالوَخزة تظاهرات واحتجاجات وتعبئة جماهيرية سلمية و مرخصة، وتحفيز وسائل الإعلام لتأخذ دورها في توعية الرأي العام المحلي علما بأنه إذا أغفل الشعب أو تغافل هو عما يخص قضاياه المصيرية تحولت المسئولية على وسائل الإعلام الملتزمة، المسؤولة و المهنية باعتبارها السلطة الرابعة والمعبر الحقيقي عن تطلعات وآمال الشعوب".
لكن الأدهى و الأمر، في الواقع القائم عموما، هو أن صحافة البلد ليست في مجملها مرآة "صدق" تعكس قوتها للسياسيين فيستقيموا، و للشعب فيستفيق و يلتحم بوسائل النهضة النظرية و العملية المتاحة لتحوله، و لتقييم المسارين السياسي و للمجتمع المدني المتعثر و نشطاهما، و إصلاح اعوجاج العود حتى يستقيم الظل و تسليط أضواء العصر الكاشفة حتى يتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الانطلاق المتأخر إلى آفاق دولة القانون و النهضة و الثبات في دائرة الأمم المستقرة.
وبالطبع فقد ظلَّ مسارُ البلد يدفع منذ الاستقلال فواتيرَ الإخفاقات و غياب الرؤى بفعل الانتماءات القبلية الضيقة و وطأة الشرائحية الظالمة و الاتكالية المدمرة و الهوة السحيقة التي تزداد بين القلة المتخمة بالمال العام و السواد الأعظم من الشعب يعيقه الفقر و الغبن و التهميش، الآفات التي قتلت مجتمعة روح العمل و الوطنية و نشرت مظاهر التخلف و أفشت البؤس و الغبن و التباين، و أَخَّرت رفع الأسس القاعدية، و قيام البنى التحتية، و أجَّلت عملية التنمية بأن تركت خيرات البلد الوفيرة عرضة للنهب من طرف الشركات العالمية الكبرى، و لتبذير المفسدين السيئي التسيير ضَعيِفَ مُدخلها على حساب التنمية الاقتصادية المُغيبة عمدا و نتيجة.
و على الرغم من أن هذا الوجه المشين غير خاف على مهتم و متابع و محلل، فإن الأحزاب السياسية لا تكف لحظة عن دق الإسفين في جدار التقهقر و لا تبالي إن سقط، تريد نفسها بالقشور السهلة النوال دون اللب الذي يستدعي الجهد و الإرادة و الصدق و الصبر.
فمتى إذن، يراجع السياسيون أنفسهم و يتخلوا عن الانتماءات الضيقة الاجتماعية و الأيديولوجية في داخل أطرهم الحزبية بالتشاور مع مناضليهم و يستمعوا إلى نداء الضمير فيجعلوا إصلاح الوطن وجهة و مشروعا و أرضية عمل من خلال تناول الأمور في عمقها لا من قشورها فلا يذهبوا إلى استنتاج عمرو:
لقد أسمعت لو ناديت حيـا ***** ولكن لا حياة لمـن تنـادي!