كانت للناس هنا في الماضي رياضاتهم الذهنية النابعة من موروثهم التراكمي ممزوجا بخصائصهم الحضارية (وربما تناولتها) ولهم رياضاتهم البدنية النابعة من بيئتهم، المعتمِدةُ على وسائلهم، الممتزجةُ بحياتهم؛ وهي رياضات لها أدبها وقوانينها وأعرافها ومفرداتها وأساليبها ونوادرها وأبطالها وضحاياها.
وإذا اقتصرت على تلك البدنية التي انقرضت تقريبا، ثم على أهم ما خضته أو شاهدته على الأقل فسأتحدث عن ثلاث رياضات هي المسابقة (اللز) والمصارعة (أطيعوز) وضرب الكرة (كز التود).
أولا المسابقة (اللز)
وكانت تجري على الإبل وربما جرت على الحمير إذا كان المتسابقون أطفالا أو نحوهم، وقد تجري على الأقدام نادرا بين البالغين (تكثر بين الأطفال) وسمعت أنها تجري على الخيل، ولكن هذه لم تكن في المنطقة التي نشأت بها؛ بل لم أرها قبل إقامتي بالعاصمة (1973).
ومن شأن ذي الثقة في مركوبه أن لا يستخدم العصا، وإنما يكتفي بالهمز بقدمه أو التلويح بطرف لثامه. ومن الإبل ما يطوي المضمار (يسمونه المرجع، بترقيق الراء) بسرعة ولكنه يرتبك في النهاية فيزيغ يمينا أو شمالا (إيكِرْ في المرجع) فتزيد عليه المسافة لذلك ويخجل راكبه ويكون الفوز من نصيب منافسه. وغالبا ما تدور الدائرة على المتحدي، ولا أدري هل يكون تحديه سبب الانتباه إلى ذلك وشهرته. ومن أخطر المنافسين من يخادع مسابِقَه ليفوز عليه، كأن يكبت مركوبه ويكفكفه حتى يغتر منافسه بالتقدم الوهمي ويكلّ مركوبه، فإذا قل الباقي من المسافة أطلق المخادعُ الخطامَ لمركوبه وزجره أو ضربه فيسبق في الخطوات الأخيرة!
كان الناس يستقبلون الفائز برمي القماش على جمله، وكان هذا يحرص على النزول فور وصوله - ولو بالوثب إن ضاق الوقت - تأكيدا لفوزه، ومن براعته أن يحط رحله قبل وصول خصمه، ومنهم من يحل الوضين والذناب في الأمتار الأخيرة من المضمار فيُنزِل رحله معه!
أحدهم سمعت (ولم أَرَ) أنه لما سبق وقف في الرحل ورفع دراعته إلى منتصفه لئلا تعلق بالرحل.. ووثب، ولكن أهم ثيابه سبقه إلى الأرض! فنغص ذلك من شعوره بالنصر.
ومن أطرف ما رأيت مما يتعلق بهذه الرياضة حادثة جرت قريبا نسبيا؛ ففي الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 1985 كانت البلاد تخلد مرور ربع قرن على استقلالها، فجرى الاحتفال بطريقة استعراضية، وعلى أصعدة مختلفة، وبمظاهر متنوعة.
كنت يومها بِوادي الناقة، وجرت الأنشطة تحت إشراف الشيخ ولد الشواف (الحاكم وقتها) وكان من ضمنها مسابقة للركبان، وعند نقطة الانطلاق (على مسافة جنوب القرية) كان راكب يجوب الأرض لحاجته فرأى علامات الاستعداد للسباق التي لا تخطئها عين عارف بها، فأطلق الخطام لبعيره دون معرفة بموضوع السباق، وإنما لإثبات جدارة بعيره، ووصل ثانيا فنال احتفاء من الجمهور ومن سلطات المقاطعة ووجهائها أثار استغرابه، وتسلم عشرين ألف أوقية، وحينها بدأ يفهم كنه الأمر! ثم واصل رحلته إلى حيث لا أدري.
لم أمارس هذه الرياضة على كثرة ما شاهدت منها ورعيي الإبل في مراهقتي وحبي لركوبها؛ أو على الأصح مارستها مرة واحدة؛ لكن بطريقة شاذة!
في مساء من يناير 1984 كنت وصديقا لي في مثل عمري في سفر على جمل للصديق، وتخفيفا لوطأة السفر كنا نلجأ إلى النوادر القولية والفعلية، فقلت له إن بإمكاني أن أسبق الجمل، فكذبني معتزا بسرعة "الحيمر" وأكدت له قولي، ولما أصر كلانا على رأيه حددنا شجرة تناهز 50 مترا من حيث كنا، ونزلتُ، وانطلقنا معا فسبقت الجمل بأمتار.
ولأن هذا ضار "بسمعة" الجمل فقد كتمته حتى الآن جبرا لخاطر صديقي العزيز الذي ربما كان جمله أخنى عليه الزمان كما أخنى على رأسه الذي غزاه التصحر كما يغزو سائر المناطق الخصبة.