حين وصل الرئيس الراحل، اعلي ولد محمد فال، إلى الحكم كنتُ مستشارًا لوزير الخارجية برتبة سفير فى الإدارة المركزية، فأسند أليَّ وزيرُ الخارجية الجديد، الدبلوماسي المحنك أحمد ولد سيد أحمد، مهام الإتصال والإعلام، وكنتُ – من حين لأخر- أنوب مدير إدارة الإتصال يومها، السفير ماء العينين ولد خالد.
كانت تلك الإدارة تعد نشرة يومية سردية وتحليلية للوزير مع نسخة لوديوان الرئيس عن الأحداث الإقليمية والدولية التي تهم موريتانيا، من باب العلم بالشيء، وتلك التي قد تتطلب تفاعلاتها أو تداعياتها اتخاذ موقف أو ردة فعل.
من خلال هذه النشرة سيكون أول اتصال لي مع الرئيس الراحل فى مطلع العام 2006 لنقاش تحليلي لقصاصة حول موريتانيا نشرتها مجلة FOREIGN POLICY وأعادت نشرها صحيفة مغاربية واسعة الإنتشار.
منذ ذلك اللقاء وحتى آخر مكالمة لي مع الراحل يوم الجمعة 28 إبريل 2017 ظلت أخلاق الرجل الحميدة ومواقفه الوطنية البارزة وحبه لموريتانيا تشدني إليه كل يوم، وتعزز ثقتي فى أن بطل الحرب مهيأ أكثر من غيره لأن يكون بطل السلم والديمقراطية.
اشتغلتُ عن قرب مع المغفور له اعلي ولد محمد فال عندما شرَّفني – باقتراح من وزير خارجيته - بالتحضير الإعلامي لزيارته الأولى لفرنسا كرئيس للمجلس العسكري للعدالة والديمقراطية من 25 إلى 28 سبتمبر 2006، و باختياري رئيسا للخلية الوزارية للربط والاتصال في مجال الانتخابات في 10 أكتوبر 2006، وهي نفس الخلية التي سيعيد الرئيس عزيز تكليفي برئاستها للمرة الثانية في 29 إبريل 2009.
كما توليتُ في المرحلة الانتقالية مركزة مراجعة التقارير المرحلية التي كانت السلطات الموريتانية ترسلها دوريا إلى الإتحاد الأوروبي فى إطار "الحوار السياسي" والتي تشمل 22 نقطة - التزاما من المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، منها: تعزيز دولة القانون واحترام الحريات الأساسية، ومراجعة الدستور، والإصلاحات التشريعية، واستقلال القضاء، وحرية الإعلام، وإنشاء لجنة وطنية لحقوق الإنسان... إلخ ... وهي أمور كان الراحل يتابعها بشكل يومي.
وأفتح هنا قوسا لأشيد بالتعاون والتنسيق الفعال بين وزارة الخارجية آنذك وبقية القطاعات الوزارية المعنية بهذه التقارير، مع شكر مستحق لمستشار الوزير الأول يومها، البروفسور أحمد سالم ولد ببوط، الذي سهر معي ليال متتالية ليس لنا فيها من أنيس إلا جحافل البعوض التي تستوطن وزارة الخارحية مع مغيب شمس كل يوم.
وكنت، يوم الخميس 19 إبريل 2007، عريف حفل تنصيب الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، حين سلمه الراحل مقاليد السلطة إثر انتخابات استحدث فى أدبياتها أسلوبا ديمقراطيا وأخلاقيا راقيا عندما وجه – فور إعلان نتائجها - رسالتيْ تهنئة وشكر إلى المتنافسين (الرئيس الفائز وغريمه أحمد ولد داداه) ، وخرج من القصر الرئاسي مرفوع الرأس فارع القامة - رحمه الله برحمته الواسعة.
كان المرحوم اعلي ولد محمد فال يعتقد أن قطار موريتانيا قد انطلق على السكة الصحيحة ذلك اليوم، وأن عليه الانسحاب من المشهد، فغادر إلى بيته ومنه إلى استراحة على مشارف مدينة بنشاب بولاية إنشيري، حيث زرته بعد أسبوع، فوجدت العاصمة قد انتقلت إليه ساسة ورجال أعمال ومواطنين عاديين، تماما كما حدث يوم أمس فى تشييعه إلى ضريح الشجاعة والوطنية ومنه إلى جنات الخلد، إن شاء الله.
فى كل هذه المراحل كنت شاهدا على مواقف وقرارات وطنية للراحل، وعلى شجاعته السياسية التي تستمد قوتها من شجاعة عسكرية فى ميادين الحرب والذود عن حياض الوطن.
سأعود إلى هذه التفاصيل فى عمل موسع، ستتمكن الأجيال القادمة من قراءته – إن شاء الله - على موقع ألكتروني خاص بالفقيد، يحفظ مآثره وسيرته العبقة بالإخلاص للوطن وحب الخير للناس، ويخلد شهادات رفاقه وكل من عرفوه ولم يكتموا الشهادة.
من حق الراحل اعلي ولد محمد فال على موريتانيا حداد من أربعين يوما وليس من ثلاثة أيام، لعل النظام القائم يكفر عن بعض تصرفاته البائسة اتجاهه واتجاه أسرته التي عاشت مضايقات لم تُرد لها أن تكون قضايا رأي عام، بدْءً بقطع التيار الكهربائي عن منزله، والمماطلة في تجديد جوازه الدبلوماسي، وحرمان أبنائه الأكفاء من التوظيف، وتسليط صحافة مسعورة ومأجورة للتحامل عليه بسبب مواقفه السياسية، ومصادرة بعض أملاك أخته فى مشهد بعيد عن العدل والإنسانية والمروءة.
اللهم ارحم عبدك اعلي ولد محمد فال واعف عنه وعافه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله، وقه فتنة القبر وعذاب النار.