انتقل إلى رحمة الباري، أمس الجمعة، الرئيس السابق اعلي ولد محمد فال عن عمر قد لا يكون طويلا بقياس الزمن العادي لكنه مديد بمقياس الفعل والحضور والأثر الذي يتركه الإنسان في الحياة حيث حقق فيه من خدمة الوطن والعلاقات الطيبة داخليا وخارجيا ما يعجز الإنسان العادي عن تحقيقه لو عُمّر آلاف السنين. ولعل مراسيم صلاة الجنازة على جثته الطيبة الطاهرة كانت أكبر دليل على ذلك إذ لم يمنع البرد ولا تأخر الوقت نسبيا آلاف الموريتانيين من حضور الصلاة على رجل وهب حياته لخدمتهم.
لقد بدأ الفقيد الشهم حياته المهنية بالدفاع عن موريتانيا في جبهات القتال وعلى خطوط النار في حرب الصحراء لما أهداه المقاتلون لقب "أسد الصحراء" وهم في ذلك محقون بشهادة كل من رآه "أيام الضِّراب" عندما تـُلعلعُ المدافع ويحمى الوطيس، واختتمها بالدفاع عنها برفضه الانقلاب على الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله ومطالبته المستمرة بحلول وطنية شاملة وجامعة تضع حدا نهائيا للأزمة السياسية في البلد الذي كان قد وضعه لتوه على سكة الديمقراطية من خلال مرحلة انتقالية ناجحة. ومن حسن نيته ومدى وطنيته، أنه ظل يؤكد دائما للوسطاء الذين يحاولون رأب الصدع بينه مع ابن عمه الرئيس ولد عبد العزيز أنه ليست لديه أي مشكلة مع الأخير، وإنما القضية بالنسبة له قضية وطن، وعندما يتم القبول بحلول وطنية شاملة فهو لا مشكلة لديه مع أحد.
أما عن الجانب الشخصي في حياة الراحل فهو يستحق أكثر من مقال أو دراسة، فالرجل كان مدرسة في الأخلاق النبيلة والثقافة الواسعة.
عندما بدأتُ العمل معه قبل سنوات، كمستشار إعلامي، وفي لقاءاتي الأولى معه تفاجأت بمستوى الخلق الرفيع والتواضع الكبير الذي يتحلى به المرحوم. كنت أتوقع أن مديرا سابقا للأمن على مدى عشرين سنة، وعقيدا من الجيش ذائع الصيت، بل مضرب المثل في الفروسية، ورئيس دولة سابق، وثاني عسكري في تاريخ الأمة العربية، بعد المشير سوار الذهب، يعطي السلطة للمدنيين طواعية، لا بد أن يكون متكبرا مستعظما مستأسدا على غيره، لكن سرعان ما تحطمت هذه الصورة لدي، ففي ذلك اللقاء، وبعد تبادل التحية، توجه المرحوم إلى طاولة في جانب الغرفة ليناولني الشراب بيديه الكريمتين، وهي عادة استمر عليها الراحل طيلة لقاءاتي معه، كما ظل، في كل لقاءاتي اليومية معه، يرافقني ليودعني عند الباب كمن يستقبل ضيفا كبيرا وليس عاملا بسيطا لديه.
إني لأشهد، والموت قد غيّب الرجل، أنه خلال سنوات عملي معه لم يعطني أمرا أبدا، ولم يطلب مني أي شيء على صيغة الأمر، بل كانت مفردات المجاملة وأساليب الود هي الطاغية على كل جملة يوجهها إلي: هل لديكم الوقت لنلتقي؟ متى ننظر في كذا؟ هل ستكون مشغولا يوم كذا أم نضرب موعدا في يوم آخر؟ عشرات الصيغ الموغلة في الخلق الرفيع وكأن صاحبها ليس هو رب العمل المالك كل الحق في أن يأمر وينهى كما دأب على ذلك أمثاله ومن هم دون ذلك.
كم كنت أتعجب من تواضع الفقيد عندما يقوم بنفسه ليفتح نافذة أو يوقد مصباحا كي نقرأ سويا بيانا أو مقالا!.. كل المعايير، كل الصفات، كل العادات تعطيه الحق في أن يطلب مني فتح النافذة أو إيقاد المصباح، فهو أكبر مني وبمنزلة والدي سنا، وهو مشغلي، وهو، وهو، وهو إلى آخر لائحة تفرض كلها أن أكون أنا الساعي إلى راحته وليس العكس.
أتذكر أنه، في مقابلته الأخيرة مع قناة المرابطون، سأله أحدهم: هل أنت نادم على ما بذلت من جهد لإنجاح المسار المهني لابن عمك الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز؟.. فتظاهر بعدم الفهم وطلب من السائل إعادة طرح السؤال. ورغم أنه فهمه جيدا، إلا أنه ترفع عن المن وذكْر فضله على الآخرين كما هي عادته. إنها الأخلاق الفاضلة في أبهى صورها وأدق معانيها.
والحقيقة أنه لا يمكنني، في مقال كتبته تحت وقع الصدمة في هذا الرزء الجلل، أن أحيط بخصال الفقيد اعلي، أو أن أعبر عن عُشر عشر ما أعرف فيه من القيم النبيلة والأوصاف النادرة وعمق البصيرة والذكاء والحكمة، لذلك سأكتفي بأن أردد مع كل من تصدق عليهم في السر، ومع كل من بشّ في وجوههم في العلن: اللهم أغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلف له في عقبه خيرا، وافسح له في قبره، وأسكنه فراديس الجنان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.