على مدار الساعة

تصوّر لخطة عمل في مواجهة انعدام الأمن بمدينة نواكشوط

5 أبريل, 2021 - 10:26
موسى حرمة الله / أستاذ جامعي حائز على جائزة شنقيط

في ورقة سابقة تحت عنوان "التطوير الذاتي: الحلقات المفقودة"، حاولت أن أبيّن الطرق الكفيلة، في الأمد المنظور، بالقضاء على الفقر والإقصاء والحرمان في موريتانيا. وسأتناول اليوم المعضلة المزمنة المتمثلة في انعدام الأمن بمدينة نواكشوط.

 

  • توطئة استهلال:

من الواضح أن إشكالية انعدام الأمن قد بلغت ذروتها في مدينة نواكشوط. فعمليات السطو المسلّح، والاغتصاب، والاغتيالات ما فتئت تتزايد باستمرار. وأصبحت صرخات الاحتجاج تنبعث مدويّة من أعماق المدينة لاسيما عبر أحيائها الشعبية.

وتُطالعنا يوميا وسائلُ الإعلام من صحف، وقنوات تلفزيونية، وإذاعات خاصة، ومواقع للتواصل الاجتماعي، بشكاوى صادرة عن مواطنين منْكوبين. ولا يخفى أنه بدون استِتْباب الأمن لن يتحقق أي نهوض اقتصادي ولا استقرار سياسي.

ومهما تكن الجهود المحمودة التي تبذلها قوات الشرطة والدرك، فلا مناص من الإقرار بأن اتّساع الظاهرة قد تجاوز طاقاتها. ذلك أن نواكشوط قد صارت مدينة مترامية الأطراف تربو ساكنتها على مليون نسمة، أي ما يقارب ثلث تعداد الشعب الموريتاني.

ولمجابهة انعدام الأمن المتفاقم، يتعيّن على السلطات التي تولت مقاليد الأمور مؤخرا أن تعبّئ الوسائل البشرية والمادية الكفيلة باجْتثاث هذه الآفة المدمّرة أو على الأقل بالتخفيف من حدّتها على نحو ملموس. ولهذا الغرض، ينبغي التجافي عن الطرق المألوفة التي غدت مبتذلة وانتهاج مسالك مُبْدِعة تراعي تطوّرات الأوضاع والظرفية الطارئة.

وهذا ما يستوجب التفكير في إقامة هيئة مستقلة تتخصّص في محاربة تلك الآفات والتصدّي لها بصورة ناجعة وفعالة.

 

وتأسيسا على ذلك، نقترح فيما يلي تصوّرا لخطة عمل من شأنها – على الأرجح – أن تشكل مظلة واقية من التهديدات الأمنية على مستوى عاصمة البلاد.

إنشاء إدارة عامة لمكافحة الانحراف والجريمة

يتعلق الأمر بسلك أمني خاص مستقل يقوده ضابط سام يتم اختياره بعناية على أساس نزاهته وكفاءته وقدرته على القيادة.

وتُسند إلى هذا الجهاز مهمة محددة هي: التصدّي للعنف الحضري بواسطة وسائل بشرية ومادية مناسبة، على أن يقتصر تدخل هذا السلك الأمني على المجال العمومي، بمعنى حراسة ومراقبة الشوارع والساحات العامة لفرض الأمن والسكينة حتى يعيش السكان في طمأنينة ورخاء.

وهذا ما يستدعي إنشاء إدارة عامة لمكافحة الانحراف والجريمة. وهذه الهيئة التي قد تكون تابعة لوزارة الداخلية (أو للوزارة الأولى بالأحرى) ستُقيم فروعا جهوية في الولايات. وتتكوّن هيكلتها الإدارية من أربع مديريات:

  • مديرية العمليات؛
  • مديرية البحث والتقصّي والاستخبارات والعلاقات مع المصالح الأمنية الأخرى؛
  • مديرية اللوجستيك والشؤون الإدارية والمالية؛
  • مديرية التنسيق فيما بين الفروع الجهوية.

وينبغي أن تكون المهام الموكلة إلى الإدارة العامة لمكافحة الانحراف والجريمة واضحة وتتلخص في التصدّي للظواهر الإجرامية على مستوى نواكشوط والمدن الكبرى في البلاد.

ففي مدينة نواكشوط، تنشئ هذه الإدارة شبكات في جميع أحياء المقاطعات التسع. فكيف سيتم ذلك؟

  1. دوريات الشرطة الخاصة

بالاعتماد خصوصا على صيغة إبداعية تتمثل في دوريات الشرطة الخاصة، ستنتشر فرق من العسَس بدءا من غروب الشمس وحتى انبلاج الصبح تجوس خلال الشوارع والأزقة في كافة أنحاء المقاطعة. ويمكن تخفيف الاستنفار خلال ساعات النهار.

وتعود هذه المهمة إلى مديرية العمليات. ومن هذا المنظور، ستتوفر كل مقاطعة من مقاطعات العاصمة على: 7 سيارات من طراز هيليكس ذات مقْصورتيْن وبألوان غير مميّزة، ويستقل كل سيارة 3 عناصر أمنية بالزي المدني (قائد برتبة عريف، ووكيلا شرطة). وعلى الصعيد الميداني، يتولى عريف أو مفوض شرطة مهام التنسيق بين الدوريات المنتشرة في المقاطعة.

وتتواصل هذه الدوريات فيما بينها ومع مركز القيادة عن طريق الراديو. ويمكن بطبيعة الحال تكييف الأعداد والوسائل المادية مع درجة التوتر المحسوسة في المقاطعة وبحسب كثافتها السكانية.

وهكذا، تتمثل الآلية المقترحة للقيام بهذه الدوريات الخاصة من حيث الأشخاص والمعدات فيما يلي:

  • من حيث الأشخاص: 21 شرطيا في كل مقاطعة، أي ما مجموعه 189 شرطيا بالنسبة للمقاطعات التسع؛
  • من حيث المعدات: 7 سيارات في كل مقاطعة، أي ما مجموعه 63 سيارة بالنسبة للمقاطعات التسع.

 

 

تنبيه: يجدر التعويل على عدد من الشرطيين الاحتياطيين في حدود مائة شرطي للتناوب وتعويض المتغيبين، بالإضافة إلى حوالي عشرين سيارة احتياطية. يُضاف إلى ذلك توفير التجهيزات اللازمة وبالأخص وسائل الاتصال الراديوية.

 

  1. فرق التنقل السريع "رجال الغيث"

بموازاة الآلية الموصوفة آنفا، سيكون هناك دعم أمني إضافي يتمثل في فرق التنقل السريع "رجال الغيث" المشكلة من الشرطة والدرك على اعتبار هذه الفرق رأس الحربة في المواجهة الأمنية للتهديدات الخطيرة. وتتنقل هذه الفرق بسرعة فائقة على متن دراجات نارية تجوب جميع أرجاء المقاطعة.

ويلزم أن تُزود كل مقاطعة بعشر دراجات نارية، أي ما مجموعه 90 دراجة بالنسبة للمقاطعات التسع.

 

  1. شرطة الحي

المقصود هو وجود الشرطة عن كثب وبالقرب من المواطنين. ومن الأفضل أن يجري انتقاء أفراد هذه الشرط من بين سكان الحي المعني الذين هم على دراية جيدة بالواقع الميداني.

ولعل الخيار الأمثل يكْمن في وجود شرطة بلدية إذا كان عدد عناصر الشرطة الوطنية لا يسمح بتغطية متطلبات الصيغة المقترحة. وعند تعذر الشرطة البلدية، ينبغي الاكتفاء بما هو مُتاح من عناصر الشرطة مع تقريبهم من المواطنين.

ويتحتم إجراء تكوين سريع لعناصر الشرطة المختارين لهذا الغرض على مدى ثلاثة إلى ستة أشهر. وبعد التكوين، يتم نشرهم في مختلف المقاطعات.

وسيلبسون الزي الرسمي لأن ظهورهم به يكون له مفعول ردْعي.

ويقوم هؤلاء الشرطيون بدوريات راجلة. وهذا ما يتيح لهم الوقت الكافي للتعرّف على طوبوغرافية الأمكنة، والتفرّس في وجوه المارّة، والإلمام بجوانب الحياة اليومية ... وسيكون بمقدورهم أن يتواصلوا بجهاز الاتصال اللاسلكي مع مركز القيادة.

وستضم كل مقاطعة 20 من عناصر الشرطة عن قرب، أي ما مجموعه 180 شرطيا بالنسبة للمقاطعات التسع.

وينبغي التعويل بالإضافة إلى ذلك على 90 عنصرا احتياطيا من شرطة القرب للتناوب وتعويض المتغيبين.

 

تنبيه: يُضاف إلى ذلك التجهيزات الملائمة لفرق التدخل.

 

وفيما يلي جدول يلخص الوسائل البشرية والمادية المطلوبة:

 

 

 

 

 

 

هذا، ومن الجدير الإشارة إلى أن الإدارة العامة لمكافحة الانحراف والجريمة لا تتداخل مهامها مع مهام الإدارة العامة للأمن الوطني. ففي العديد من البلدان توجد هيئات أمنية ومخابراتية تعمل كل منها على شاكلتها في حقل نشاط واحد. ذلك أنها مصالح تتكامل فيما بينها وتتآزر في تنافس شريف لبلوغ الهدف المشترك.

 

  1. شبكات المُخبرين

يلزم إقامة شبكة من المخبرين. ومن أجل ذلك، سيتم اكتتاب مخبرين في أحياء كل مقاطعة. ويتمثل عمل هؤلاء المخبرين في مراقبة تحركات المجاورين، لا سيما ليلا، ورصْد أماكن التقاء الجانحين المحتملين الذين يُبدون في الغالب علامات لا تُخطئها عين المخبر الحصيف. وفي السياق ذاته، يمكن الاستعانة بخبرات بعض سائقي التاكسي الذين باستطاعتهم أن يُدلوا بمعلومات قيّمة عن تنقلات زبنائهم.

 

  1. رقم خاص للنداءات المستعجلة

ينبغي أن يوضع تحت تصرف سكان نواكشوط خط هاتفي من 3 أرقام للنداءات المستعجلة، على أن يكون هذا الخط متوفرا في شبكات الاتصال التابعة للشركات الثلاث. وبذلك يستطيع الجمهور في مقاطعات نواكشوط التسع أن يتصل عند الحاجة بمركز القيادة في الإدارة العامة لمكافحة الانحراف والجريمة. وستكون هذه المكالمة أسرع من الاستغاثة التقليدية بالشرطة العادية. ذلك أن الدوريات المشكلة من المهنيين المختصين تكون قريبا من مكان المكالمة وبالتالي تتدخل دون تأخير.

 

  1. ينبغي أن تتوفر الإدارة العامة لمكافحة الانحراف والجريمة على مقر في كل من مقاطعات نواكشوط التسع. وسيتم توظيف هذا المقر في اعتقال واستجواب المشتبه فيهم.

 

  1. إنشاء قطب قضائي خاص

 

لأغراض مكافحة الانحراف والجريمة، سيتوفر على الدوام قاض متفرّغ لكي يَمْثل لديه المتهمون المقبوض عليهم في حالة تلبّس. وبإمكان هذا القاضي عند الاقتضاء أن يصدر مذكرة اعتقال. ويتطلب ذلك سلفا وجود نظام للحبس الاحتياطي في هذا النوع من القضايا، على أن يُعتقل مرتكبو الجنح أو الجرائم في مدينة بعيدة عن مكان ارتكاب الجرم.

 

  1. استخدام الطائرات المسيّرة

يجدر اللجوء إلى استخدام بعض الطائرات المسيّرة في سماء مقاطعات نواكشوط التسع. وستكون هذه الطائرات مجرد وسائل للتمويه. ولا يُقصد منها سوى التأثير النفسي على الجانحين والمجرمين. ذلك أن الترويج للإشاعات بوجود مراقبة من الجو سيخلق تشويشا في اللاوعي لدى المنحرفين. وستسري الإشاعة بأن الطائرات المسيّرة تصوّر المارّة المشبوهين وترصد مكان خروجهم ومكان دخولهم. كما أن بالإمكان تزويد تلك الطائرات المسيّرة بمكبرات للصوت تردد بعض التعليمات والتنبيهات.

 

  1. إجراءات أخرى

يمكن وضع كاميرات مراقبة في أماكن إستراتيجية من مقاطعات نواكشوط. وسيتابع وكلاء تشغيل هذه الكاميرات على مدار الساعة.

ويلزم أن يتم شهريا رصد نشاط الإدارة العامة لمكافحة الانحراف والجريمة عن طريق نقطة صحفية مخصصة لهذا الغرض.

وسيوضع رقم أخضر تحت تصرف الجمهور. وهكذا يتلقي أي شخص يساهم في الكشف عن عملية إجرامية أو يمنع حدوثها مكافأة نقدية مع ضمان التستّر الكامل على هويته، على أن يتناسب مبلغ المكافأة مع قيمة المعلومات التي يدلي بها الشخص المخبر.

 

ولا يسعنا في ختام هذا الاستعراض إلا أن نسوق هذه المقولة المنسوبة إلى شارل باسكوا وزير الداخلية الفرنسي الأسبق: "يجب أن نُرهب الإرهابيين". وفي حالتنا الراهنة، علينا أن نرهب المنحرفين والمجرمين.

وبتسيير دوريات مكثّفة في أحياء مدينة نواكشوط، وباستخدام الشرطة الخاصة، وباللجوء إلى تدخل فرق التدخل السريع، وبالاستعانة بالشرطة عن قرب، وبإنشاء قطب قضائي خاص مع إمكانية الاعتقال في مدن داخلية بعيدة، فإن الجانحين وغيرهم من المجرمين سيفكرون مليًّا قبل ارتكاب الجرم. ذلك أن هذه الترسانة القمعية ستحد كثيرا من هامش تصرفهم بل ستشلّه تماما في أمد قريب. فالدوريات والفرق المباغتة ستكون لهم بالمرصاد في كل وقت وحين، علما بأن المقصود في المقام الأول هو إثارة الخوف ومفعول الردع أكثر من السعي إلى المعاقبة والتجريم.

وفي الختام، هل علينا أن نذكّر بأن كلفة هذه الخطة العملية ستكون باهظة؟ لاسيما وأن تقييم الوسائل البشرية والمادية يقتصر هنا على مدينة نواكشوط وحدها. ومن نافلة القول التنبيه إلى أن الآلية المقترحة ينبغي توسيعها لاحقا لتشمل سائر عواصم الولايات في الوطن.

ومن ثم يجدر، في إطار التعاون الثنائي، أن نطلب تمويل هذه الخطة من بعض الدول الشقيقة والصديقة: فرنسا، المغرب، الجزائر، دول الخليج ...

وإذا استطاع الرئيس غزواني أن يرفع هذا التحدي التاريخي بتوفير الأمن المستدام في مدينة نواكشوط، فسيحقق نصرا عجز عنه من سبقوه. وسينال بذلك مكسبا سياسيا وإستراتيجيا بالغ الأهمية، بل سيكون هذا الفوز أبرز مؤشر من معالم مأموريته الخمسية.