"شفت صور وفيديوهات مريعة من آخر مجازر سوريا، بعدها بخمس دقائق قرأت تغريدة منفصلة مضحكة وضحكت، والآن أنا مصدومة من نفسي. هذا الزمن مسخنا"، هكذا كتبت إحداهن واصفة ميكانيكية الشعور في أبهى تجلياتها.
وتذكرت أنا منظر محمد الدره في أول صورة قتل مباشرة تخترق شبكية العين في ذهولٍ لأول مرة عبر قناة الجزيرة، أتذكر جيدا أننا كنا نجتمع على سفرة الغداء، مِن إخوتي من غلَبته الدمعة، ومنّا من غالبتهُ وغلبها. في ذلك اليوم كان منزلنا كئيبا لا روح فيه ولا حياة، وكأن روح محمد الدره تتجول بيننا. استيقظنا صباحا على وسم "محمد الدره" في المدارس والشوارع وأصحاب المحلات، وسم ليس إلكترونيا، إنما يأخذ شكل القهر والحزن على الوجوه.
الآن.. نشرب الشاي وننتقل بين أروقة الوسائط الالكترونية في عرض بهلواني تتسع فيه عروق القلب وتضيق في جزء الثانية المنهك... وجع يُنسي في وجع، ولافرح مطلق. معلومات سائلة على رأي أحدهم ننجرف معها دون وعي ودون قدرة على التوقف فرحا أوحزنا وكأننا نسقط في هوة ثقب زمني لا نجاة منه. لا تعلّق ولا شعور مستبد!
يتبادر إلى الذهن أن تصميم الرسالة جاء على شكل ومضات متقاربة جدا ومتلاحقة، لا نملك الوقت لأي شيء سوى أن نحث المسير بين يدي هذا الشعور المتقلب. نفكر في جيلٍ ألِف القتل والتشريد وناقش قضايا الساعة من مسيلات الدموع إلى القتل بالكيماوي مرورا بالسجن والتشريد والتجهيل واللجوء، جيل يطرح الأسئلة الكبرى أمام عجز من سبقوهم عن الإجابة على سؤال: التحول في الشعور!
الغريب هو التحول في الشعور دون أدنى إحساس بالوخز والألم، أو بالتناقض أو تغيير الإصدار على افتراض الميكانيكية...! لا أعرف إن كانت رتابة الأحداث وتكراراها، والتي كلما ازدادت خف حجم الشعور بالألم وبوجع الضمير وبالمسؤلية تجاهها، هو السبب في هذا التيه الشعوري، فالقضايا المشتركة انفصلت بسبب ردات فعل الشعور والتعود.
قضية فلسطين مثلا؛ الجيل الذي جاء بعد جيلي مؤمن في أغلبه "بفصل الدولتين" والجيل الحالي لا علاقة له بفلسطين والتغريبة الفلسطينية، إلا إذا شاهد منظرا مؤلما وسأل عن ماهيته واقترح حلا لا يمكن أن يخطر على قلب بشر من جيلنا، إلا اتهم بالخيانة والعمالة والنذالة، فهل تُحدَد اصدارات الشعور بحسب دالة الزمن والأحداث؟ ربما.
تغيرت الدالة الزمنية بشكل يدعو للذهولِ والتفكير الذي لن يأخذ وقتا ليتعمق، حيث إنني الآن لا أستطيع أن أقوم بما كانت تقوم به أمي عندما كانت تحاول أن تُهَذب شعوري وتبقيه في مسار واحد، عندما كانت تمحو من التلفاز كل القنوات التي لا تناسب عمري وأولها قنوات الأخبار.
ولو فعلتُ أنا ذلك اليوم، لكانت ثورةٌ أولها في اليوتيوب وآخرها في انستغرام مرورا بالفيسبوك وتمبلر وسناب شات والباث وغير ذلك، فنكتشف أن كل هذه السرعة في تحول الشعور مؤلمة بقدر بطء تصورنا لها وعدم قدرتنا على استيعاب تناقضاتها.
وقد قال الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في الظلال مفسرا قوله تعالى: "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى": "فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء. وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا. وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم. ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس. في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة. والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال! وأضحك وأبكى.. فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين. كل حسب المؤثرات الواقعة عليه. وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق. لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك."
أخيرا يبقى القابعون في أطراف الشعور هم سادة المواقف الثابتة والمبادئ النقية، يبقون مثل طودٍ لا يعير اهتماما سوى لعاطفة لا تبقي ولا تذر.!
نقلا عن مدونة الكاتب عن مدونات الجزيرة