هذا العنوان جاء مؤقتا برمضان بدل العنوان العام وهو (للإصلاح كلمة) الذي كان يأتي لمناقشة عموم أهل الدنيا وتارة كان يلتفت إلى هموم أهل الآخرة، وذلك لارتباط هذه الدنيا بالآخرة في أي عمل يعمله الإنسان يقول تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} وقوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}.
ونظرا إلى أن شهر رمضان المبارك له خصوصيات جمعت بين الدنيا والآخرة منها نزول هذا القرآن فيه، هذا القرآن الذي قال فيه المولي عز وجل إنه تبيانا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين، فينبغي لكل مسلم أن يراجعه دائما في هذا الشهر ليأخذ منه دينه مباشرة كما جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام كان يراجع القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى آخر الحديث وتفصيلاته.
هذا الإسلام المعنون بالعمل به كما هو: له خصائص لا بد أن يفهمها المسلم كما وردت في القرآن، فمن هذه الخصائص أنه هو الواصل بين الدنيا والآخرة، فليس بعده دين كما أنه هو الدين العام الذي أرسل به النبي صلي الله لكل فرد من الإنس والجن وهو الذي جاء معه كتابه المفصل له ومحفوظ معه مدة وجود الإسلام على الأرض حتى يأتي وعد الله.
فمن يؤمن بهذا الدين يؤمن بما جاء مفصلا في القرآن الذي أنزل كما قال تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}.
وكل مسلم اتصف بهذه الصفة وهي الإيمان بأن هذا الكتاب جاء كاملا ومفصلا من عند الله يؤمن بالآيات المحكمات فيه التي جاءت تذكر هذه الخصوصية، وهي قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، ويفهم من لفظ هذه الآية وفحواها أن جميع الدين الإسلامي تم كله عند نزول هذه الآية ولم يبق إلا العمل به طبقا لما جاء في القرآن لأن الآية جاء من ضمنها عبارة توحي طبقا للبلاغة العربية التي نزل بها القرآن أن جميع الدين الإسلامي كمل عند نزول الآية، فكلمة "دين" نكرة أَضافها الله إلى جميع المخاطبين وهي تعم كما هو مفصل في أصول الفقه بمعني أن جميع دينكم قد أكملته لكم في هذا القرآن وهذه الآية جاء حديث صحيح يفسرها بنفس معناها وهو حديث جبريل عليه السلام، فبعد أن جاء جبريل عليه السلام للنبي صلي الله عليه وسلم وسأله أمام الصحابة عن الإيمان والإسلام والإحسان فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم بالجواب المعروف المفسر لكل من الإيمان والإسلام والإحسان فصدقه جبريل علي ذلك الجواب.
وعندما ذهب جبريل أراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يفهم الصحابة مغزى سؤال جبريل عن هذه الأشياء أمام الصحابة فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال : إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) بنفس العبارة والمعني الذي في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فهنا أيضا "دين" نكرة مضافة إلى المخاطبين بمعنى أن دينكم محصور في الإيمان بمعرفة الله ورسله وكتبه والإيمان بيوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وفي الإسلام بالصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وفي الإحسان بأن يشعر الذي يعبد الله بأنه إذا لم يكن يرى بعينه ذات الله جل جلاله فإن الله يرى ذات الإنسان وينظر إليه ساعة عمله فليحافظ على إفراده بالعمل طبقا لما جاء في الإسلام القرآني، ونظرا لمعنى هذه الآية والحديث أعلاه، وتحديدها لمعنى هذا الإسلام – فإني أود أن ألفت نظر المسلمين إلى أن الزيادة التي أحدثها المتأخرون في هذه العقيدة - وذلك التحديد الصادر من الله عز وجل وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه امتثالا لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} - فهي زيادة من الشيطان.
فالقرآن تكلم فيه المولى عز وجل عن نفسه بأنه الخالق لهذا الكون وفصل خلقه للسماوات والأرض وخلقه للإنسان أولا من طين وثانيا على ما ءال إليه كيفية الخلق بعد ذلك كما نشاهد، وخلق لهذا الإنسان الموت والحياة ليبتليهم أيهم أحسن عملا، كما أخبر المولى عز وجل في القرآن أنه بعد خلقه مباشرة لهذا الإنسان أمر الملائكة بالسجود له إلا أن هذا الأمر كان يعني جميع الحاضرين ومنهم الشيطان فسجد الملائكة وامتنع الشيطان مباشرة لله جل جلاله قائلا له وبصراحة: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} مبينا – تكبرا – أن النار التي خلق هو منها أفضل وأقوى من مادة خلق آدم وهي الطين.
وبعد هذا التمرد مباشرة على الله جعل المولى عز وجل لحكمة أرادها أن يسلط هذا الشيطان المتمرد على ذرية هذا الإنسان المكرم المسجود له من طرف الملائكة كما أراد الله لحكمة يعلمها هو أن يكون نصيب الشيطان من أبناء هذا الإنسان أكثر بكثير من أتباع ما جاءت به الرسل من عند الله كما هو موضح في القرآن توضيحا باللفظ والصورة والحركة، ومآل ذلك الإنسان المتمرد مع الشيطان في الدنيا مصرح في القرآن بمآله معه في الآخرة يقول تعالى: {قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك ومن تبعك منهم أجمعين}.
هذا التمرد الإنساني تبعا لما يزينه الشيطان وقع عندما أطلق له المولى عز وجل لحكمة لا يعلمها إلا هو بقوله تعالى: {اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}، فكان في معنى هذه الكلمات التي أذن الله فيها للشيطان أن يعمل ما في وسعه من الغواية من الصد عن سلوك الطريق المستقيم الذي أقسم الشيطان أنه سيقعد وسطه ولا يترك أحدا يقوم بالاستقامة في سلوك الطريق المستقيم الذي أمر الله بسلوكه حتى قال الشيطان إثر جلوسه على الصراط المستقيم: {ولا تجد أكثرهم شاكرين}، ومعروف أن معني الشكر هو مدح المنعم على ما أنعم به على المحتاج للإنعام، إلا أن الله جل جلاله استثنى بحمايته للإنسان من الشيطان قليلا من الأفراد قد اجتباهم واصطفاهم في الأزل فمنع الشيطان من أن تصلهم غوايته: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}، وهذا جمع قلة بينته الآية في قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولمعرفة الشيطان للمولى عز وجل أنه يتصرف كيف شاء أجاب الشيطان المولى بأن المخلصين لله من عباده سوف لا يتوجه إليهم بالغواية، وإذا توجه إليهم بها فهو يائس من التأثير عليهم لحماية الله لهم منه.
هذا وبعد أن أوضحنا البداية لخلق هذا الإنسان وكيف سلط الله عليه هذا الشيطان، وأوضحنا النتيجة التي بين الله لنا في هذا القرآن وهي أن الأغلبية من هذا الإنسان اختارت سلوك الطريق غير المستقيم الذي دعاها إليه الشيطان المتمرد على أوامر الله تاركة سلوك الطريق المستقيم الذي دعاها الله إليه {صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض}، وبذلك يكون الطريقان اثنين فقط لا ثالث لهما: الطريق المستقيم الذي أمر الله بإتباعه، وطريق جهنم الذي دعا إليها الشيطان كما قال تعالى: {ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم}، فإني في الحلقة الرمضانية الموالية إن شاء الله تعالى سأبين أنواع فعل الشيطان في هذا الإنسان لصده عن سلوك الطريق المستقيم، بادئا بغواية الشيطان للإنسان في عقيدة معرفة الله جل جلاله كما وردت في القرآن ومحاولة الشيطان لزيادة هذا الاعتقاد وتفصيله لمعرفة ذات الله من غير هدى ولا كتاب منير.
وإلي الحلقة الرمضانية القادمة بإذن الله متمنيا للجميع صوما مقبولا وهداية الله المستثناة من غواية الشيطان الواضحة في قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى برك وكيلا}.