الحلقات الماضية من هذا العنوان تركزت على أن الإنسان هو موضوع الإسلام، الذي طلب فيه المولي من هذا الإنسان أن يعمل لما خلقه له في الدنيا وهو العبادة لينعم بذلك في الآخرة، وبينا أنه كذلك في نفس الوقت الذي خلق الله فيه الإنسان قيض له الشياطين ليصدوه عن ما أمره الله به وهو توحيده بالعبادة.
ولذا أصبح عندنا للكلام عليه المواضيع التالية: الله جل جلاله وأمره للإنسان بعد خلقه ليعرفه عن طريق آياته ومن أهم تلك الآيات خلقه للسماوات والأرض وجميع الكون بدون أي مشاركة له في ذلك يقول تعالى: {وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}، وكذلك إنزاله هذا القرآن المعجز لما سوي الله كله من إنس وجن وغير ذلك، ومكان إعجازه صدق ما أخبر به في الدنيا كما رأينا وصدق ما أخبر عنه في الدنيا ضروري منه أنه سيكون في الآخرة.
أما هذه الحلقة فستكون في حقيقة الانسان عند الله ما ظهر منها في الدنيا وما سيكون عليه مصيره في الآخرة.
وبادئ ذي بدء فالعالم الإنساني كله متفق علي كيفية خلق الإنسان كما وصفها الله في القرآن وهو أنه من نطفة أمشاج بين ذكر وأنثي، وهذه النطفة تتطور في بطن الأم تطورا موحدا في الجميع وفي مدة موحدة في الجميع كذلك، ومعني ذلك ثبوت خلقه أولا من طين لأن الجميع منصوص في القرآن، ومنه الموت للجميع والبعث للجميع، {ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}.
هذه هي حقيقة خلق الإنسان، أما في حياته وبعد مماته فإن حقيقته عند الله هي الآتية:
أنه لم يخلقه الله كله لدخول الجنة بل أكثره خلق لدخول النار بل جعل وقودا للنار أي حطبها هو الإنسان والحجارة يقول تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} ويقول كذلك: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} إلى آخر الآية، وهذا يفسر خصوصية تكريم الله لابن آدم وتفضيله له عن كثير من خلق الله أن ذلك خاص بتصويره على شكله الذي خلق به وتفضيله بالعقل الذي سوف يكون تكليفه بأوامر الله سببا سيجعله عند عدم امتثالها في أسفل سافلين، وبذلك أيضا حطبا لجهنم كما قال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} أي الظالمون الجائرون، ولكن من هداه عقله هذا على العمل الصالح التابع لأوامر الله كما هي {فهم في روضة يحبرون يطاف عليهم (يوم القيامة) بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين} إلى آخر الآية.
ونتيجة لهذه الحوصلة أعلاه وهي انفراد الله بخلق الإنسان وتكليفه بأوامره ليعلم (أي يظهر بذلك) من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقضية اختيار اتباع تحويل القبلة ينطبق على ظهور إتباع أوامر الله أو رفضها ليترتب على ذلك تقسيم الإنسان فمنه مؤمن ومنه كافر - وتكررت هذه العبارة في القرآن تكرارا يوحي بواقعها المحتوم في الإنسان – إما شاكرا وأما كفورا.
ونذكر هنا أن محاولة الإنسان لجعل أي نفع أو ضر من أي إنسان كان حتى ولو قال الإنسان أن النافع والضار هو الله ولكن سبب هذا هو الإنسان، فذلك هو الشرك بعينه في قلب الإنسان الذي لا ينظر إلى تقلبه مباشرة إلا الله وحده.
فأمر الله للرسول صلي الله عليه وسلم بأن يقول للمرسل إليه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ليس المراد بها تنقيصا من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإبلاغ الرسول ليس تواضعا منه ولكن إظهار حقيقة الإنسان مهما كان أن الله لم يعطه مسؤولية النفع والضر لتكون من صفاته، وكل ما يكون في قلب الإنسان من ذلك لأي شخص فذلك من وحي الشيطان الذي سوف نتكلم عن دوره في الإنسان الذي أذن له المولى عز وجل في تأثيره به في سلوكه ليضله به عن الصراط المستقيم.
ومن حقائق الإنسان عند الله أنه لا يعلم الغيب مهما كان نبيا ولا سيما ما دون ذلك أي عبدا صالحا، وهذه العقيدة الفاسدة عند الإنسان الذي يعتقد عكسها في الإنسان هي التي ركزها الشيطان في قلوبنا حتى أصبحنا نثبتها لبعض الأشخاص بمفهوم المخالفة بقولنا لمن نريد أن نقنعه بأننا لا نعلم الغيب (أنا لست بولي) دليل فاضح على أن هذا النوع من الشرك استحكم في قلوبنا حتى أصبح عقيدة، أما الحكايات الكثيرة التي تؤيده حتى أصبح صاحبه داخل في معنى الآية التي يحذر فيها المولى عز وجل من إحباط العمل الصالح من الإنسان دون أن يشعر مثل رفع الصوت على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}، ويقول تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}، فمن جاء يوم القيامة ووجد نتيجة عمله الذي يظن أنه صالح يساوي صفر فقد خسر الدنيا والآخرة {ذلك هو الخسران المبين}.
وإلى الحلقة القادمة بإذن الله عن باقي حقيقة الإنسان عند الله.