على مدار الساعة

العشر الأواخر الكنز السنوي

3 مايو, 2021 - 08:58
محمد الصغير/آب

تطل علينا هذه الأيام العشر الأواخر من رمضان, وهي ظرف زمني قصير غاية في عمر هذا الزمن السريع الانصرام, ولكن هذا الظرف وافر الأجر, عظيم الثمرة, لمن وفقه الله لحسن العمل فيه, فحفظ وقته بالطاعة والسمو في مراتب العبودية ومسالك الإحسان.

 

ولنعرف للعشر الأواخر قيمتها ما علينا لو أجلنا النظر في بعض ما ورد في فضلها.

 

روى ابن ابي حاتم في تفسيره عند قوله تعالى وليال عشر أن ابن عباس قال هي العشر الأواخر من رمضان,وهكذا قال ابن عطية عند الموضع نفسه من تفسيره وزاد أن الضحاك قال به.

روى البخاري(1924) ومسلم(1174) واللفظ له أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر .

 

فهذا الحديث ينبئك عن استقبال النبي صلى الله عليه وسلم للعشر وعمله فيها وهو أعبد الناس وأتقاهم لله وأخشاهم له و تلخص ما ذكره الحديث في ما يلي:

 

1-إحياء الليل أي سهره بالقيام في الصلاة وقد ورد من وجه فيه ضعف أحيا الليل كله قاله ابن رجب في اللطائف.

 

2-إيقاظ الأهل للصلاة وفي رواية فلا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه نسبها في الفتح لمحمد بن نصر المروزي وفي اللطائف عند الطبراني.

 

3-الجد في العبادة ومنه اعتكافه صلى الله عليه وسلم وطول قيامه بالليل.

 

4-شد المئزر قال العيني في عمدة القاري(9/215): شد مئزره: أي إزاره كقولهم ملحفة ولحاف وقال الحافظ في الفتح (4/269): قال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معا وقد ورد عند ابن أبي شيبة في المصنف شد مئزره واعتزل النساء, وبه فسره الثوري واستشهد بقول الأخطل:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار

وعلى تفسيره بالجد يقول الشاعر الهذلي:

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري

نقله ابن الجوزي في كشف المشكل عن ابن قتيبة(3/58)

فهذا الحديث دل بمنطوقه ومفهومه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص هذا العشر بمزيد من التعبد لا يبلغه في غيره من رمضان.

وروى مسلم (1175) عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.

 

فهذه حجة بينة على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة التي توجد بندرة في العمر وقد لا تتكرر, فإنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد رمضان ولكنه يجتهد في العشر اجتهادا أكبر ويجد جدا أعلى.

 

فيا أيها المسلم هذا باب خير فتحه الله لك فإياك والتفريط فيه, فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أزكى الخلق وأتقاهم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره, فما الذي ينبغي أن يكون عليه الحال بالنسبة لغيره, وكيف يكون بالنسبة للمتكاسلين قليلي القيام والسجود كثيري المعاصي؟

 

هذا وإنه في هذا الظرف الوجيز قد تقطع المسافات والمفاوز سيرا إلى الله وترقيا في مدارج التقوى لمن أحسن العمل وبالغ في الإخلاص فضلا من الله على عباده يكفرون به ما فات من ضياع وتكاسل وانصرام العمر في غير طاعة.

يقول ابن الجوزي رحمه الله في كشف المشكل(3/58):

وإنما كان يجتهد في العشر لمعنيين:

 أحدهما: لرجاء ليلة القدر

والثاني: لأنه آخر العمل وينبغي أن يحرص على تجويده.

ومن فضائل هذا العشر أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر, وفيها أنزل القرآن, وفي ذلك من التعظيم والإجلال ما فيه; إذ لا ينتقي الله لإنزال كلامه الذي هو صفة من صفاته إلا أحسن الأزمنة وأفضلها وأولاها بالاغتنام, وقال صلى الله عليه وسلم:

من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. البخاري(2014)

ولعل من أسباب فضل العشر وتعظيم أجره أن كثيرا من الناس يبدؤون الشهر بالتعبد والصيام والقيام ولكن قل من يبلغ منهم آخره بمثل جده وتشميره الذي استأنف به فكان هذا التفضيل للعشر على بقية رمضان الفاضل محفزا للعمل وشدة السباق.

وقد أخذ هذا الاجتهاد في العشر عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابُه من بعده فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف(6/275) أن أبا بكرة كان إذا دخلت العشر اجتهد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ثم اعتكف أزواجه من بعده.

البخاري (2026) ومسلم (1172)

وتتابع عليه الأئمة من بعدهم فقد ذكر ابن رجب في اللطائف أن النخعي كان يختم القرآن كل ليلتين في العشر, وفي بقية الشهر في ثلاث, وكان قتادة يختم كل سبع دائما, وفي رمضان كل ثلاث, وفي العشر كل ليلة.

هذا ومن عرف قيمة هذا العشر فلا يليق به إلا أن تثمر عنده تشميرا وجدا فلعل الله يفتح عليه به أبوابا من الخير والعبادة وصلاح القلب والتعلق بالله ما يسعد به بقية عمره.

 

وفي الختام هذا زمان السباق وأوان البذل فقد آذن رمضان بالذهاب وعظمت الثمرة ولا مناص من علو سامق,أو ضياع فرصة هذا الكنز السنوي, والعاقل من طلب الأمور في ظرفها, فبالصيام في النهار, والتهجد في الليل, وكثرة التلاوة بتدبر, والإلحاح على الله بالدعاء والصدقة والذكر= يكون المرام ويدنو القصي, وتنال الدرجات, والمغبون من أمكنه الظفر والفلاح وباء من هذا الشهر صفر اليدين.

يقول ابن رجب في اللطائف:

ليلة القدر عند المحبين ليلة الأنس بمولاهم..يا من ضاع عمره في لا شيء استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.

 

اللهم أنلنا من فضلك ولطفك ما تبلغنا به رضاك الأكبر الذي لا سخط بعده.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.