الحلقات الماضية ركزت فيها على ثلاث مواضيع:
أولا: العمل على معرفة الله طبقا للقرآن أي بالنظر في آياته كخلقه للسماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وكيف خلق الإنسان وتسلسل هذا الخلق كما نرى وخصوصية إنزاله للقرآن واشتماله على العلم الواقع في الدنيا بالمشاهدة وما سيقع في الآخرة، فمعرفة الله لا تكون بمعرفة المكتوب ولا بالموروث إلخ.
ثانيا: حقيقة الإنسان عند الله: وتتلخص في أنه مهما كان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا علم له بالغيب إلا ما علمه الله لمن شاء منهم.
ومن هذه الحقائق أن الله حدد دنيا الإنسان بمدة حياته المحدودة وأقصاها مائة سنة، فيها الضعف الأول، وأرذل العمر في الضعف الأخير، وبعد ذلك الموت ورجوعه إلى الله مباشرة دون أن يلتقي بأي إنسان آخر ليعامله حسب عمله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، ولا مبدل هنا لكلمات الله.
ومن هذه الحقائق أن أكثرية الإنسان سوف يكون حطبا لجهنم إلى ما لا نهاية من ساعة وفاته، وأقلها سوف يكون في أعلى نعيم من الله ساعة وفاته إلى ما لا نهاية.
ثالثا: الشيطان: هذا الجان المخلوق لله عدوا للإنسانية أزليا ليضلها عن الصراط المستقيم لتتحول من كرامة خلق الله للإنسان وأمر الله لملائكته بالسجود لأبيهم آدم إلى استحقاقه أن يكون حطبا لجهنم بمخالفته لأوامر الله مباشرة: والكلام على هذا المخلوق عدو الله والملعون بنص القرآن والعدو للإنسانية بنص القرآن أيضا هو موضوع هذه الحلقة من هذا العنوان والأخير فيها.
فعندما أراد الله خلق آدم وإكرامه بسجود الملائكة له تمرد هذا الملعون على هذا التكريم من الله، وأبى واستكبر عن السجود مع الملائكة وبسبب ذلك طرد من رحمة الله ووعده الله هو وذريته وأتباعه من الإنسانية بأن يكونوا حطبا لجنهم حتى تمتلئ من الجميع، وبعد هذا اللعن والطرد من الرحمة سأل الله أن يطيل عمره مدة الدنيا وأن يسلطه على هذا الإنسان لإضلاله عن الهدى وهو تنفيذ أوامر الله كما هي: فأجابه الله لهذين الطلبين طول العمر في الدنيا وأذن له أن يخترق الإنسان دون أن يراه الإنسان ويتمركز في جميع عروقه الواصلة لقلبه والموجهة لفكره ليتصارع فيها مع وضوح العقيدة كما أنزلها الله في كتبه وبلغة قوم رسله كما هي وبين توجيهات الشيطان بدون أي دليل المعبر عنه في القرآن تارة بالسلطان وتارة بالبرهان وتارة بإظهار النصوص التي جاءت على لسان رسل الله إلى الإنسانية كلها بلسان كل قومية ليتبين لها ما أوحى الله إليها به لتمتثل أوامره وتنتهي عن نواهيه.
ولوضوح هذه الأوامر وتلك النواهي وعلاقة الامتثال بهما إلى الخلود في الآخرة داخل الجنات وإظهار التنعم والحبور فيها خاطب الله الشيطان بقوله: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد} إلى آخر الآية – عبر الشيطان أمام الله بكل عبارة تعرف العرب تأكيدها في لغتها التي نزل بها القرآن بأنها هي أشد عبارة يؤكد بها وبلغها الله عنه للإنسانية بأنها هي كلمات للشيطان في موضوع تسليطه عليهم فقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} وقال في موضع آخر: {لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} بالبداية بلام القسم والختم بنون التوكيد، إلا أن هناك أقلية احتفظ الله بحمايته منه فاستثناها من الغواية بلفظ قلتها "إلا قليلا"، وعلامتها هي الإخلاص في عبادة الله وتنفيذ أوامره بدون أي واسطة فقال {إلا عبادك منهم المخلصين}، وهم الذين جاءت أوصافهم موضحة في القرآن في قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا} إلى آخر الأوصاف في هذه السورة وفي سور أخرى.
أما تنفيذ الشيطان لإضلال الإنسانية عن سلوك الطريق المستقيم الذي أقسم أنه سوف يجلس وسطها ويوجه الإنسانية لتمر حسب توجيهاته هو خارج الطريق المستقيم، وعلى ضوء ذلك فقد قسم الشيطان الإنسانية حسب رغباتها الدنيوية ليضلها عن طريق تلك الرغبات، وأكثر هذه الرغبات استطاع الإضلال بها عن الطريق المستقيم وبجدارة هي العبادة تبعا لما كان يعبد الآباء حتى أن كل إنسان يعرف بعقله أن الحجر والشجر والبقر لا يضر ولا ينفع، ولكن الإنسان تبع فيها عبادتها آباءه، وقضية أبي طالب في اختياره أمام الرسول صلي الله عليه وسلم لتبعيته لما كان يعبده أبوه عبد المطلب معروفة، وهكذا تتابعت الإنسانية على تقديس طريق الآباء مع أن الله حذرهم من ذلك بعبارات لا معقب لها عقليا فتارة مثل لها بقوله {أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} وتارة تصرح بأن آباءهم شياطين في قوله تعالى: {أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}، وهذا يشمل ابتاع الأصنام واتباع الانسان على غير أوامر الله كما أظهر ذلك لعبادة قوم عيسي له.
وهذا الإصرار على اتباع الآباء يفعله الإنسان بالرغم من أن الله يقول له أن الآباء وغيرهم لا يغني عن الإنسان شيئا، وأنه سوف يأتيه بعد موته بمفرده دون آبائه مهما عملوا من العبادة الصالحة فضلا أن يكون عبادتهم على حرف يقول تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} إلى آخر الآية، وكذلك فإن الشيطان عندما يرى أن ميول الإنسان إلى حب المال أو الأولاد فيحرك هذه الناحية الفكرية في قلبه ويوحي إليه بزخرفها غرورا حتى يضله.
ومن الأجدر أن يخاف منه المؤمن هو إضلال الشيطان له بدون أن يشعر بهذا الإضلال لأن الله هو الخالق حقيقة للأفعال الصادرة من الإنسان ولوضوح أوامر الله الخالصة وتميزها عن غيرها فإن الإنسان لا يشعر بانحرافه مع توجيهات الشيطان ويظن أنه على الحق، فكم من آية نبهت الإنسان على ذلك يقول تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا}، {كذلك زينا لكل أمة عملهم} إلى آخر الآيات، وهكذا فعلى كل إنسان أن يدرك أن معالم الطريق المستقيم لا توجد إلا في القرآن أو ما صح عن النبي صلي الله عليه وسلم ممحصة وواضحة في نفسها ومبينة للمعالم الأخرى الخاطئة، فالطريق المستقيم لا فروع له لأن المصدر واحد والمورد واحد، فكل طريق آخر يسمى لا معنى لتسميته إلا معنى يوضح به أنه تفرق عن الطريق المستقيم يقول تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} إلى آخر الآية، فيوم القيامة سيختفي أصحاب كل المسميات ساعة قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} فالإمام واحد وهم من رسل الله وحدهم كما قال تعالى لرسولنا صلي الله عليه وسلم: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} فالشاهد علينا جميعا واحد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول تعالى هنا: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
وأخيرا فبانتهاء هذه الحلقات الرمضانية نعود إذا كان في العمر بقية بإذن الله إلى العنوان القديم: (للإصلاح كلمة).