مَضى ابنُ سَعيدٍ حينَ لَم يَبقَ مَشرِقٌ *** وَلا مَــغــرِبٌ إِلّا لَهُ فــيـهِ مـادِحُ
وَمـا كُـنـتُ أَدري مـا فَـواضِـلُ كَفِّهِ *** عَلى الناسِ حَتّى غَيَّبَتهُ الصَفائِحُ
فَـأَصـبَـحَ فـي لَحـدٍ مِـنَ الحَيِّ مَيِّتاً *** وَكـانَـت لَهُ حَـيّـاً تَـضـيقُ الصَحاصِحُ
وَمـا أَنـا مِـن رُزءٍ وَإِن جَـلَّ جازِعٌ *** وَلا بِــسُــرورٍ بَــعـدَ مَـوتِـكَ فـارِحُ
كَـاَن لضـم يَمُت حَيٌّ سِواكَ وَلَم تَقُم *** عَــلى أَحَــدٍ إِلّا عَــلَيـكَ النَـوائِحُ
لَئِن حَـسُـنَت فيكَ المَراثي وَذِكرُها *** لَقَـد حَـسُنَت مِن قَبلُ فيكَ المَدائِحُ
سَأَبكيكَ ما فاضَت دُموعي فَإِن تَغِض *** فَـحَـسـبُـكَ مِـنّـي ما تَفيضُ الجَوانِحُ
أحقا رحلت يا شيخ المشائخ وعلامة القطر ومفتيه؟ أحقا نزلت عن صهوة الجواد وغادرت إلى:
وهو انتقال طيب الأرواح *** إلى بلاد الأمن والأفراح؟
أحقا غاب شخصك وغبت إلى رحلة الخلود التي لا يؤوب صاحبها؟ أحقا أنني إذا زرت المسجد المبارك الذي عرفته وعرفني أيام الحر والبرد لن أجدك؟ وليس لدي إلا ذكراك؛ التي تؤرق المضاجع، وتخلف في سويداء القلب جرحا لا يندمل، حقا إنها رحلة الخلود إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار نسأل الله أن تكون مستقرك وقرارك بعد أن رحلت؛ مخلفا علما غزيرا بثثته في صدور الرجال، لوجه الله عز وجل، أحقا أن الطلاب من كل حدب وصوب فقدو شيخا وإماما قل نظيره؛ علما وتواضعا وزهدا وخشية من الله لن يجدوك؟
نعم، قد رحلت ولكن ماذا رحل؟ رحل برحيلك يا شيخي وقدوتي وفخري وسندي وإمامي وملاذي في علم النوازل تأصيلا وتنزيلا؛ العلم الذي وهبه الله لك؛ فقها وأصولًا وحديثا وعلومه، ولغة عربية وعلومها، وقواعد الفقه وأمهات التصانيف وتدريس المتون جميعها، في ثوب عديم المثل منتجع العديم ماذا نعزي فيك؟
عزاء أيها اللوح المصاب *** وصبرا يا دواة ويا كتاب
ودمعك يا عريش ويا مصلّى *** وبعض جواك أيتها الرحاب
فكم في يوم مسغبة وجهل *** تلاقى الشيب عندك والشباب
هي حقا الدنيا كلما اخضر منها جانب جف جانب، وهذه رحلة المصير المحتوم:
نهاية كل مؤتلف شتات *** وغاية كل عمران خراب
لا حول ولا قوة إلا بالله كأن لم نكن نجلس بفناء ذلك البيت العامر بالفضل والكرم، كأن لم نكن نسمع النصوص، كأن لم يثار غبار المراقي، ويثار غبار الكوكب الساطع، ويثار غبار مرتقى الوصول إلى علم الأصول، وغبار ألفية ابن مالك مع الاحمرار، ولامية الافعال مع احمرار بن زين، ومختصر خليل، ومتن المنهج المنتخب، وكفاف المبتدي، ونظم المقصور والممدود، ونظم إضاءة الدجنة، ونظم البيقونية، وابن عاشر، ونظم السلم المرونق، ونظم ألفية البيان في البلاغة، والجوهر المكنون، ونظم ألفية العراقي في مصطلح الحديث، ونظم طلعة الأنوار في علم آثار النبي المختار، وشرح عمدة الأحكام، إلى رياض الصالحين، إلى الأربعين النووية، إلى غير ذلك..
لقد زرت مشايخ عدة في محاظر عدة، وما وجدت شيخا بحجم ومكانة الشيخ محمد فو الله إنه ليفري المراقي فريا، ويبين مرامي النص بأسلوب يعرف به مقاصد الطلاب والتلاميذ كل حسب مستواه وفهمه، وتتساوى النصوص عنده بداية ونهاية، بالمختصر المفيد الشيخ محمد عالم علماء بلاد شنقيط وحامل لواء العلم في زماننا، لقد سقى قلوبا من رحيق العلم الزلال ورضاب العسل السيال، لقد انتقلت أواخر مدرسة الشيخ الحاج ولد فحف رحمه الله علما وزهدا، وخشية وتواضعا وكرما..
كان شيخنا العلامة البحر محمد والله كذلك في العلم والورع والزهد وفوقه؛ يظل سحابة يومه يدرس في المعهد (معهد الإمام مالك) وهو معهد أسسه منذ التسعينات؛ ويقارب الليل نصفه وهو في حلقته؛ يتجول بين أفنان العلوم منقولها ومعقولها؛ وطلاب العلم حوله من كل حدب وصوب وقل فيه وأنت صادق والحال يصدقك:
في الفقه والنحو شيخي لا مثيل له *** وكل قرم إلى إقرائه قرم
وإن أتت طرة المختار يقرؤها *** حتى يرى الحاضرون النار تضطرم
وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم
كان شيخنا العلامة البحر مرآة للعلماء الزاهدين، ومنارة للشيوخ المخلصين، تتعلم من أدبه وخلقه الرفيع قبل علمه؛ أما علمه فحدث ولا حرج:
وإذا عكفت على الكتاب فآية *** تجلى لديك فليس فيها مغلق
وإذا خلوت بربك الملك الذي *** يهب الحياة كما يشاء ويرزق
راعتك قدرته فقلبك واجف ***من روعة تربو ودمعك مهرق
كان والله ريحانة من رياحين المحظرة وأريحا فواحا بشذى العلوم المنقحة المصححة، وبقية من رعيلها الأول، سلطان العلماء الزاهدين وإمام المتقين، وحامل لواء العلماء الربانيين المخلصين، رابط فيها متعلما معرضا عن الدنيا حتى تصدر معلما مربيا لا يرد لوح طالب علم:
على صدره كل العلوم فصدره *** مراجع إن شحت عليك المراجع
وكان طلابه - والحمد لله كنا منهم - نتعلم منه ويتعلمون منه الدين والخلق الحميد قبل العلم، رحمه الله وكأنه كما عني بقول القائل:
يمثّل من هدي الصحابة صورة *** ويا حبذا هدي الصحابة مغنما
كما تعكس المرآة وجها أمامها *** ويحكى الصدى الصوت الفخيم المرخما
وطبع مثالي كحبس معقب *** على الشيخ محصور بإلا وإنما
ووافر علم كان فينا يبثه *** وكنا إلى تعبيره جمع أهيما
وأعمال بر صالحات تزينه *** بها الود مجعول له أين يمما
وعما تبقى من حميد خصاله *** أرى الصمت أولى بى من أن تكلما
فما لم أقله فليقس رمل عالج *** يحاول محصيه الصعود إلى السما
الشيخ محمد تحفة فريدة، ونعمة عظيمة:
وما شيخي محمد بالذي إن *** دعى داعي النصوص الظهر ولّى
فليتي كنت خادمه لأحظى *** بما به يحظى خدم الأجلاّ
حين تسمعه يدرس المراقي؛ ترى العجب العجاب كأنما هو يقرأ من الشرح ويهب الله لطلابه معرفة ما يقول، وذلك من إخلاصه لأنك تلمس في وجهه وجه العالم المربي، وفارس العلم المجلّي، كانت النصوص من أي فن متساوية عنده، فيقول بصوته وتواضعه في خشية (إيو امشّ حد منكم) ولا يقول لك ما الذي ستدرس؟ لأن مدرسة الشيخ تتسم بالموسوعية؛ في بعض الأحيان ونحن في حلقته نتعجب من سرعة بديهته، وحرصه على عدم الكلام في الناس، بل الوقت أنفس عنده إما تدريسا للطلاب؛ أو مراقبة للنفس، ومحاسبة لها، وتالله إن أريج بيته حين يفوح غبار تدريس النصوص لأحسن رائحة من المسك، وحين تسأل عن عويصات النوازل؛ تجد الإجابة الشافية مع الحرص على عدم التسرع والتثبت فو الله ليس بالمتسرع؛ بل كان شيخا وقورا حليما متئدا حنونا على الطلاب خصوصا المبتدئين عليه من ربي سحائب الرحمة.
لقد كان في دهرنا سترا وفضلا ونعمة وجوده نعمة كبيرة:
لقد كان سترا دهرنا فمتى قضى *** تبدّت مساوي دهرنا ومعايبه
أما وقد غادرت الحياة الفانية، ورحلت عن صهوة الجواد؛ تاركا وراءك قلوبا مليئة بمحبتكم، وتركة ثقيلة نظرا لشخص بمكانة حجمكم ومكانتكم العلمية، رفع الله درجتكم وتقبلكم في الصالحين، وأعان أخانا وصديقنا الحبيب الشيخ العلامة الفقيه سيد محمد على تحمل الأمانة، وجعله أهلا لذلك، ولا زال بريق العلم خالدا تالدا فيكم؛
فإن قلتم مصاب من كريمٍ *** عديمِ المثل منتجع العديم
فعند الله للأبرار خيرٌ *** كما قد جاء في الذكر الحكيم
وأجر بعده نرجوه خير *** من إجراء المدامع في الحميم
وروى قبره شبوب غيث *** من الرحمات منهمر عميم
وبارك في البنين وفي ذويهم *** وبارك في الوصيلة والحريم
كلنا راضون بقضاء الله وقدره، ومسلمون بما قضى وحكم به، فهو المتصرف في كل شيء وما يفعل الله بعبده المؤمن إلا خيرا فأسأل الله أن يبرد مضجعك، ويحعل قبركم روضة من رياض الجنة.
سيمتطي صهوة جواد التتلمذ أناس ما عرفوك ولا قدروك حق قدرك أيام كنت أنت، وكانت الأيام أيامك أيام يثار غبار النصوص في جميع جوانب الدرس لكل من سيدرس، ولكن هيهات بل ما ذكروك إلا حين رحلت، وغادرت إلى دار الخلود، تقبلك الله في الصالحين.
كان أواخر عهدي بشيخي رحمه الله قبيل رمضان بقليل؛ زرته في المسجد يوم الجمعة، وتلقاني بوجهه البشوش، ومحيّاه الذي يشع نورا وبركة وفضلا وصلاحا؛ وقضيت معه دقائق؛ ما أود أن لي بها حمر النعم، وناقشت معه مسائل علمية؛ كانت شاكلة لي، ويجيبني بإجابته المعهودة، وتواضعه الجم أسأل الله أن يتقبل منه ويجزل له المثوبة.
وإني وصديقي ورفيقي الغالي الشيخ الفقيه الدرديري ولد باب ولد معطه ممن يعزى فيه فلقد عرفناه حق المعرفة، وقد كان لنا نعم الشيخ المربي جزاك الله عنا أحسن الجزاء وتقبلك في الصالحين.
هذه حروف حاد بها الخاطر المكدود؛ مع عجره وبُجره، وهي قليلة في حق هذا البحر الغطمطم، أسأل الله أن ينفعه بما علم به الطلاب، وأن يتقبل منه كل أعماله الصالحة؛ من إنفاق وزهد وخشية وتواضع لرب العالمين.