لا مراء فى أن البلد يسير بخطى واثقة ورصينة على درب تجذير قيم الديمقراطية، وتعزيز الحريات الأساسية وترسيخ الثقافة الحقوقية وتكريس الإصلاحات التشريعية والمؤسسية، ولا جدال فى أن حرية التعبير تجسدت مكسبا سياسيا وطنيا وخيارا استراتيجيا ديمقراطيا؛ يشكل ركيزة محورية للممارسة الديمقراطية ورافعة قوية للتنمية فى عصرنا الراهن.
بيد أن صيانة وتوطين مكسب الحرية يستدعى فى المقابل استجابة موازية لتلبية وتمكين مطلب المسؤولية؛ نظرا للحاجة لضرورة اقتران الحرية بقيم المسؤولية والوعي والمهنية، فهي ترتبط بها ارتباطا جدليا وثيقا؛ والعلاقة بينها علاقة لازم بملزوم.
ويتعاظم الاهتمام بالارتباط القائم بين ثنائية الحرية والمسؤولية كوجهين لعملة واحدة، خصوصا في سياق تطور الثقافة السياسية وبروز مفاهيم المواطنة التي تتعالق فيها الحقوق والواجبات.
ولا شك أن الحرية بمفهومها العام تشكل العمود الفقري للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة ، وتندرج ضمن المقومات الرئيسة لمنظوماتها الحقوقية، ولعلها المدخل الأساسي لولوج فضاءات الإبداع والازدهار وعوالم الخلق والابتكار، والمفتاح المركزي للنهضة والتطور والتنمية فى حياة الشعوب والأمم، غير أنها لا تنتج أو تفرز هذه القيم والمزايا إلا بارتباطها الوثيق مع ضوابط المسؤولية التي يتعين على القانون أن يحددها ويرسم معالمها فى كل بلد.
ولكل من الحرية والمسؤولية أبعاد فلسفية وسوسيولوجية وسيكولوجية، وجوانب سياسية وقانونية وأخلاقية متشعبة، ولا يتسع المقام فى هذا المقال للإحاطة بها، إلا أننا نروم الركون فى هذه المقاربة إلى التأكيد على فكرة ضرورة الربط بين حق التمتع بمكسب الحرية ومطلب تحمل المسؤولية كالتزام أخلاقي وتجسيد قانوني لثنائية الحق والواجب.
ورغم أننى لا أدعو على الإطلاق لمراجعة سقف الحرية أو تقييدها عبر الأطر السلطوية أو القنوات الإيديولوجية، إلا أنى أطالب فى الوقت ذاته بتفعيل أجهزة الضبط والرقابة المؤسسية وتوسيع صلاحياتها وتطبيق المدونة القانونية، وأدعو أكثر من ذلك إلى تفعيل المسؤولية الاجتماعية والرقابة الذاتية، ومراعاة المعايير والقيم المهنية فى مضامين المنشورات الإلكترونية والمحتويات الرقمية لوسائل التواصل الاجتماعي؛ بأسمائها المستعارة وحساباتها الوهمية المنفلتة من كل قيد أو عقال والمتحررة من كل وازع أو رادع.
فلا مناص من آلية لترشيد حرية النشر الإلكتروني وعقلنتها بما يخدم لحمتنا الاجتماعية ووحدتنا الوطنية؛ بعيدا عن المحاولات اليائسة لبث خطابات التطرف والكراهية؛ فلا مجال بيننا للهويات والانشطارات الضيقة القلقة!.. ولا مجال بيننا للتشظي ودعوات التفرقة النزقة..! ولا وقت للمهاترات والتجاذبات والأجندات الشرائحية والمناطقية والقبلية.
هذا أوان ترسيخ كيان الجمهورية المبنية على قيم الحرية والمسؤولية؛ ومبادئ التنوع الثقافي والتعددية...
هذا أوان تكريس الدولة المدنية القائمة على أسس ديمقراطية وحضارية...
هذا عهد استمرار نضج الحكامة السياسية.. واستكمال نهج البناء والتنمية.
إننا فى حاجة ماسة إلى صون مكسب الحرية بالاحتكام إلى صوت العقل والمسؤولية، وتفعيل هذه العلاقة العضوية حتى تصبح الحريات فضاءات للديمقراطية والتنمية؛ بمثابة صمام أمان يسهم فى بناء الإنسان وترسيخ قيم الأوطان.
وذلك أهم مدخل للتحول من النظرة السلبية والرؤية العدمية.. والفهم العقيم والفكر السقيم..! نحو مداءات رحبة ومساحات خصبة من النقد الموضوعي البناء والتعاطي المنهجي العميق، والتفكير الإستراتيجي الأصيل والتخطيط الاستشرافي الرصين.
وحينها تصبح الحرية ترجمان الوعي.. وعنوان السعي لبناء صرح الثوابت والمشتركات وترتيب الأولويات؛ سبيلا إلى تجاوز التحديات وتصحيح الاختلالات بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة؛ وعبر آليات التشاور الديمقراطي والحوار الحضاري الراقي.