بعد انتهاء الحلقة الأولي بأن الدنيا هي دار امتحان واختبار للبشرية بإعطاء الحرية الكاملة للإنسان في التفكير والعمل يقول تعالي في شأن التفكير {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر}، وفي شأن العمل: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.
ولكن في الآخرة ينعكس الأمر تماما: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون}، {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.
وبناء علي هذه الحقائق، فإني سوف أبدأ بمقدمة يتفق عليها جميع المسلمين وهي:
أولا: أن حياة أمة محمد صلي الله عليه وسلم تتراوح ما بين الميلاد إلى 100 سنة، وهي قطعا أرذل العمر، فما قبل الميلاد لا وجود للشخص، وبعد المائة لا وجود له معتبرا، وعليه فإذا طالت الدنيا قرونا أخرى قادمة فلا يملك فيها الإنسان إلا ما تقدم مع أنه يمكن أن ينقطع في أي لحظة ويواجه مصيره يوم القيامة إن خيرا أو شرا مواجهة لا مرد لها من الله يقول تعالى: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير}.
ثانيا: من المتفق عليه أن من مات لا يرجع أبدا إلى الدنيا ليخبر غيره بما رأي.
ثالثا: من المتفق عليه عند المسلمين أن الآخرة لا يعلم ما سيقع فيها إلا الله وحده، وأن حقيقة ما سيقع فيها جاء مفصلا في القرآن وبينه النبي صلي الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، وأن ما فيها من العذاب من ساعة الموت إلى يوم القيامة لا طاقة للبشرية به وهو واقع بها، وما فيها من النعيم لا يخطر له علي بال، ولا غني عنه ولا يعرف حقيقته إلا الله.
رابعا: أن من قرأ القرآن من أوله إلى آخره سوف لا يجد فيه إلا استقلال ما بين كل إنسان وربه لا عند الموت ولا عند الحساب ولا عند آخر المصير.
فأمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}، {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله} لم تكن لإظهار التواضع بل هي آية محكمة أمر الرسول بتبليغها لأن النسخ لا يقع إلا في الأحكام بمعنى آية فيها حكم، أما إخبار الله عن نفسه أو ما سيفعل وكذلك إخبار رسله عنه فكل ذلك واقع لا محالة ولا نسخ فيه.
وبناء على هذه الحقائق أعلاه، فعلى كل إنسان أن يفكر وهو حي في قدرته علي إيجاد ما ينفعه إذا كان مستطاعا ودفع ما يضره كذلك، إلا أنه من ساعة موته التي لا يعرف وقتها انتهت قدرته على فعل أي شيء، ولذا يقول الله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم – أي جميع الأقارب وغيرهم – ولكن لا تبصرون} إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق} إلى آخر الآية.
والمتتبع لآيات القرآن كلها فلا تجد لأي نفس تدخلا في شأن أي شخص آخر مهما كانت عبادته في شأن شخص آخر لنفعه أو ضره {لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}.
فعلى كل إنسان أراد الله التوفيق أن يقف ليترك نفسه تتخلل كلمات القرآن آية فآية لترجع إليها هذه النفس إذا وفقها الله بحقائق من عدم لقاء أي شخص لقاء ينفعه في الآخرة بل يلقى الله وحده من ساعة الموت إلى نهاية المصير، يقول تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون}، ولذا ذكر الله للإنسانية أٌقرب المقربين إليهم نسبا لأنهم مظنة محبته للقريب توحي بأنه سينفعه فأبعد الله ذلك النسب عن أي منفعة لقرابة يقول تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى}، فالله ذكر أن الوالد والولد لا تعاون بينهما ولا بين الأم ولا الإخوه ولا صاحبه وبنيه كما في الآية.
أما غير القربى فقد ذكر الله كثيرا من الخصومات في القرآن بين التابعين والمتبوعين ليس هنا في القرابة ولكن في شكل العبادة.
فالله لم يخص الكافرين أو الفاسقين بذم أتباعهم بل تارة يطلق عموم الأتباع يقول: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} وتارة ينص عن الاتباع المذموم منه اتباع العبادة للتقرب من الله.
فبما أن الله أمر نبيه بإخلاص العبادة له فقال: {فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص}.
وبناء على ذلك فإن القرآن لم ينزل آية في القرآن توحي بعبادة يترتب عليها التراتبية في العبادة بمعنى أنه لم يأمر أي أحد أن يتبع أي أحد في العبادة ولا أن يتلقى منه ذكرا خاصا إلا ما جاء في القرآن من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فترق بكم عن سبيله}.
فهذه المقدمة مجرد تنبيه على ما سوف أذكره من سبل أخرى متعددة حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباعها ذاكرا أن السير على الطريق المستقيم مكانه وسط الطريق وهو سواء السبيل أي وسطها أي يدور الشخص مع حقيقة الآيات والآحاديث الصحيحة حيث دارت.
أما الحلقة الثالثة فسوف تكون إن شاء الله في ذكر الفرق التي كلفت نفسها بالخوض في العقيدة بما لا تعرف عنه شيئا لأنه لم ينزل في القرآن وكذلك الصوفية الذين نسبوا عبادتهم لأشخاص معتقدين أنهم دائما دونهم في القرب من الله من غير دليل ولا يمكن الإتيان بدليل غير موجود في القرآن على هذا الاتباع يقول تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} إلى آخر الاية.