فاجأنا أمس إمام مسجد تنياشل - الذي جيء به من هنالك للأسف - بفيديو يقول فيه إنه "يشكو باسم القرية من حاكم واد الناقة لإعطائه ترخيصا في حفر بئر في أرض متنازع عليها على أساس أوراق مزورة" ومع أن هذا الحديث مهترئ إذ إن الحاكم "المشتكى" ليس من اختصاصه إعطاء الإذن أو منعه، وإن كان الإذن وطلبه يمران به، إذ ذاك هو العرف الإداري، وإنما إعطاء الإذن من اختصاص وزارة المياه
فإن هذه الفقرة تحتوي على نقطتين جوهريتين ينبغي الوقوف عندهما، ألا وهما:
١ - قوله إن الحفر في أرض متنازع عليها
٢ - قوله إن الأوراق التي قدمت للطلب مزورة
وليس الحديث باسم القرية نقطة جوهرية إذ معلوم عند كل أهل المقاطعة أنه ما وكل يوما إلى ختنه الطامح الأستاذ محمد سالم الذي أقحمه - على طيبته وبراءته - في هذه القضية، وإمام المسجد حفظه الله ما يعرف له أهل قريته على ذلك قدرة ولا إلى مثله طموحا، فكيف يدعي الحديث باسمهم دون أن يكون لأغلبهم أي علم بذلك:
سهو الإمام إذا تبين سبحوا * إن الإمام له يسبح إن سها
أما النقطة الثانية فمتعلقة بالسلطات الإدارية التي أعطت الأوراق، وأعطت الترخيص وهي أدرى بحقيقة ما أعطت وأقدر على الرد والتوضيح متى ما رأته لازما، على أن إعطاء تراخيص الحفر في مثل هذه الحالات لا تحتاج أوراق ملكية أصلا، فضلا عن كونها صحيحة أو مزورة،
وأما النقطة الأولى فلأنه قد كُتب عنها سابقا يوم كان الحديث خاصا (وليته ظل كذلك) فقد رأينا أن نبسط هنا مساقها وسياقها طالما أنها أُخرجت للرأي العام على ضعف ما لها به من صلة، وقلة ما لإخراجها إليه من فائدة، وسيكون الحديث عنها عبر محورين يُعنى أولهما بنشأة القرية والبستان الذي يثار اليوم حوله الغبار ومن يعود له الفضل في ذلك.
فيما يخلص المحور الثاني منهما لقضية الحفر وما أثير حوله من شبهات، وما مر به من منعرجات، وذلك على النحو التالي :
- المحور الأول : لقد قدم الشيخ محمد بن محمذن بن أبا إلى أرض تنياشل وهي يومئذ عراء لا ماء فيها ولا أنيس بها وأقام بها وحيدا ثم لم يزل يدعو الناس إلى النزول بها والمقام عندها ويحكي في فضلها القصص وينشد الأشعار، ويأبى ما يريده من ذلك معظمُ القوم لوعورة سبيلها وبعدها عن المراكز الحيوية يومئذ، وظل الشيخ صامدا عاضا على فكرته في إحياء تلك الأرض بالنواجذ لا يثنيه لوم لائم ولا عذل عاذل، ولم يزل أهل القرية يأتون إليه زرافات ووحدانا حتى أصبحت القرية هي أكبر تجمع قروي لهذه القبيلة، وقد سخّر الشيخ لها كل إمكاناته وطاقاته، وكان أبا برا وأخا شفيقا لكل أهلها لا يفرق بين قريب وبعيد، وظل سيدها والمقدم فيها بلا منازع، وتشهد على بعض أفضاله سيارته التي يقول فيها السيد محمد عالي حفظه الله :
محمد وتّو ايجيبها * واسو اعليه المن جابها
ما يعرف كد اوكيلها * الا يعرف كد اشرابها
وأسس محظرة لتعليم القرآن الكريم تخرجت منها أجيال من أبناء القرية ومن مختلف القبائل وكان معتنيا بالتجويد أيما اعتناء...
وابتدأ مع أول قدومه إلى المنطقة جلب النخيل إليها وغرسه فيها، ( وهنا لا بأس أن نشير إلى أن كل المساكن القريبة من البستان الذي يريد أهله الحفر داخله أنشئت بعد البستان بأكثر من عشرين سنة، فهو السابق وهي اللاحقة ) وكان يجيب المثبطين والمستهزئين بقوله : إن ينبت يكن جهدنا قد أثمر وإلا فلسنا أول من حاول ولم ينجح، وبها اليوم بستان عظيم يؤتي أكله كل عام بإذن ربه.
هذا وقد رام أحد أبناء الشيخ محمد في الأشهر الأخيرة أن يحفر بئرا في هذا البستان خاصا به لسقي نخيله وري شجره، واستأذن أكابر القرية - من باب الأدب - في ذلك وما نعلم أن أحدا ممن استأذنهم اعترض على حفره بل كان بعضهم يستغرب من استئذانه في حفر بئر في بستانه الخاص .
المحور الثاني : قضية الحفر ؛ شبهات ومنعرجات:
وقد كان الأمر إلى هذه اللحظة طبيعيا إذ لا يعدو أن رجلا له بستان يريد أن يحفر فيه بئرا لسقيه وريه، ثم دخل الأستاذ محمد سالم ول دودو على خط مسار القضية فاعترض على ذلك الحفر زاعما أن فيه تعديا على الملكية العامة وقال في صوتيات لا تزال موجودة إنه إذا كان حريم النخلة لا يجاوز ظلها فإن البئر لها حريم يبلغ المرعى والمحتطب، ومعنى ذلك أن الحفر الخصوصي تملك به الأرض التي حوله، فلا ينبغي أن يؤذن في ذلك الحفر الخاص، فكتب في الموضوع الأخ يحظيه بن ببات - ولعله كان حينها يظن أن هذه الشبهة هي سبب الاعتراض - وبين بالأدلة أن الحفر داخل العمران لا حريم له، وأن الحريم إنما يكون في الفلوات، ونقلَ نصوص المذهب الشاهدة على ذلك، ثم إن الأستاذ محمد سالم هرع إلى التفريق بين بئر البلد وبئر الحضر، زاعما أن بئر البلدة يملك به بخلاف بئر الحضر، فبين له الأخ نص الفقهاء المالكية على أن لا فرق بينهما، وكان آخر العهد بمحمد سالم في تلك الكتابات أن ادعى التفريق بين الآبار الارتوازية والآبار التقليدية الإسمنتية باعتبار الأرض تملك بهذه دون تلك( وما كنا نتمنى أن ننقل عنه مثل هذا التخريف إلى العلن ولكنه أصر ) وكانت خاتمة المكتوب الأخير ليحظيه الذي لم يجب عليه االأستاذ إلى اليوم هي كالتالي:
"ولولا أن أكون أحرجت الأستاذ بالأسئلة، وأني أخشى أن يكون الجواب يحتاج إلى نحت، وفي ما سبق من النحت كفاية ( وكان الأستاذ قدأكثر من السب والشتم ) لقلت له من أين لك الفرق بين الآبار الارتوازية والآبار التقليدية الإسمنتية وهل الفرق بينهما إلا تطور الوسائل ؟!
وأضفت السؤال إلى الأسئلة العالقة التي لا يبدو أنها ستجد جوابا، وهي أسئلة عن ثلاثة نصوص، أولها يدل على أن من حفر داخل عمران قائم يمكن أن يملك به حريمه، والثاني يفرق بين العمران والبلدات من حيث الحريم، والثالث يجيز للجار أن يمنع المالك من التصرف في ملكه" .
وهنا انتهت قضية شبهات المنع العلمية وبدأت التشغيبات فأذاع الأستاذ أن لأهل أبا تشريعا على كل تراب تنياشل( واصل الصحة بعد ) وبدأت المبادرات الرامية إلى نزع فتيل الأزمة والوصول إلى حل توافقي، وكانت أولى تلك المبادرات مبادرة السيد دداه بن امبد الذي بذل جهودا مضنية في محاولة الوصول إلى حل مرضي، ثم جاءت دعوة الأستاذ أبو بكر بن أمد التي انبثقت عنها لجنة المصالحة برئاسة الأستاذ سيد بن النَّدَّ، والتي توصلت بالفعل إلى حل توافقي يتم بموجبه إخراج بئرين عامين من داخل البستان ويُسلم أهل أبا للمجموعة التشريع الذي عندهم، والذي اتضح أنه لا يجاوز البستان إلا بأمتار معدودة عكس ما كان يروج له، وبالمقابل تسلم لهم الجماعة ورقة موقعة من مختلف فصائل المجموعة تشهد بملكهم التام لذلك البستان وأن لهم أن يحفروا فيه ما شاءوا من آبار، وقد تم ذلك الصلح بتاريخ ١٢/٦/٢١ ولا تزال مقاطعه المرئية وصوره موجودة وقد فرح به الجميع لا لأن طرفا انتصر على آخر بل لأن أزمة لم يشهدها المجتمع من قبل وقد كادت أن تعصف به قد انتهت، وصفحة مؤلمة قد طويت.
وقد ظن مثير المشكلة - لأمر لا نعلمه - أنه انتصر انتصارا عظيما في ذلك الصلح وطفق يسرح ويمرح، ويبين ويشرح، ولم نشأ أن نفسد عليه فرحته لأنا ظننا أن المشكلة حلت والقضية انتهت، ولا ينبغي أن يكون فيها غالب ومغلوب، وإنما ينبغي أن تتصافح الأيدي وتتعانق القلوب، ويعود الناس إلى سابق عهدهم من الوئام والانسجام .
ثم إنه لمّا أفاق من ذلك الانتصار الموهوم أدرك أنه خسر خسرانا عظيما في القضية إذ لم يعْدُ في جهوده المضنية أنه وجد بئرين قديمين في حظيرة قد أمِن الناس شرهما على أطفالهم ومواشيهم فأخرجهما وأوجب على ساكنة القرية من الحذر واليقظة تجاههما ما كانوا عنه في غنى، ومعلوم عند الجميع أنه لا نفع فيهما اليوم ولا حاجة بالقرية إليهما،ثم أخذ من القوم ورقة إدارية لا قيمة لها في الواقع الحضري
النائي ولا تتجاوز أرض البستان إلا قليلا، ولا تأثير لها في الواقع على ما تجاوزت إليه، وذلك خلاف ما كان يروج له من أن التشريع يتجاوز مساكن القرية وأبدلها لهم بأخرى موقعة من جميع الأطراف المعنية بالقرية، وهي أهم بكثير من الورقة التي كانت بحوزة القوم .
فلما أدرك الأستاذ ذلك الفشل ندم ندامة الكسعي ولات حين مندم، فأراد أن يردها جذعة، ويئد حلم المصالحة الذي تمناه وصفق له واستبشر به الجميع، وذلك بإشاعة تزوير الأوراق المستلمة وأن هناك أوراقا أخر لم تسلَّم بعد :
والدعاوي ما لم تقيموا عليها ** بينات أبناؤها أدعياء
فلما أبى له الناس ذلك أعلن أنه ماض إلى القضاء وأنه سيشكوا من الأسرة لأنهم منحوه أوراقا مزورة ... !
هذا وكان من جهوده غير المعلنة أنه أرسل بعض الشباب بعد منتصف الليل إلى البئر التي بدأ حفرها بعد أن اكتملت إجراءاتها الإدارية، وتمت عليها من المجتمع الموافقة فأفسدوا ما وجدوا حولها من إسمنت وأتلفوا بعض آليات العمال التي يعملون بها، ( ونعتذر عن ذكر الأسماء سترا لأصحابها ) ومع هذا العمل الإجرامي والتعامل السافل فلم يشْكُ منهم أحد حسب علمنا، بيد أنه كان من سوء طالعهم أن فرقة الدرك كانت قد أعلنت اعتزامها السفر إلى القرية لمعاينة المكان، وكان الجميع على علم بتلك الزيارة وكان موعدها في الصباح الموالي لتلك الجريمة التي دهش لها الجميع، فلما سألوا عن الموضوع اعترف الإخوة بفعلتهم فاصطحبوهم معهم .
وكان من آخر تلك الجهود أيضا الموازية للشكوى، والنشر هنا وهناك ما تم بالأمس حيث أتي بإمام المسجد الطيب البريء ليقحم هو ومسجده في حرب لا يدرك حيثياتها وأبعادها، وما نظنه سيشارك فيها لو عرف حقيقتها ومراميها.
وخلاصة القول إن البئر التي يود القوم حفرها إنما هي بئر خاصة في بستان خاص ولا ضرر منها على أحد من الجيران ولا تأثير لها على الملك العام، وما ادعى أحد أن بها نزاعا طيلة العقود الأربعة الماضية، وقد استكملت الأوراق اللازمة لترخيص الحفر بعد أن سلكت الطرق الإدارية الطبيعية، ولا مشكلة عند عامة أهل القرية مع السيد الحاكم ولا مع غيره من سلطات المقاطعة وعلاقتهم بهم علاقة تقدير واحترام وقد عبروا لهم عن ذلك في الزيارة التي أقامها لهم أمسِ وفد رفيع من سكان القرية، والإمام ومحمد سالم الذي جاء به لا يمثلان إلا أنفسهم .
عن المجموعة محنض باب بن المختار بن حيا